يعد فتح القدس من أبرز المحطات في التاريخ الإسلامي، وهي نتيجة جهود عظيمة قادها السلطان صلاح الدين الأيوبي. كانت القدس تحت سيطرة الصليبيين منذ الحملة الصليبية الأولى عام 1099م، وتعرضت المدينة لمذابح كبيرة. بفضل حكمة وشجاعة صلاح الدين، أُعيدت القدس إلى المسلمين عام 1187م بعد معركة حطين، وهو إنجاز لا يزال يُذكر بفخر في تاريخ الأمة الإسلامية.

خلفية تاريخية

خلال أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، شن الصليبيون حملات عسكرية استهدفت السيطرة على الأراضي المقدسة. استولوا على القدس وارتكبوا مذابح مروعة ضد المسلمين، مما أوجد شعورًا بالغضب والمرارة لدى العالم الإسلامي. خلال هذه الفترة، كان العالم الإسلامي ممزقًا بين دويلات متفرقة، مما ساهم في ضعف المقاومة أمام الغزاة الصليبيين.

جاء صلاح الدين الأيوبي ليُغيّر هذا الواقع تمامًا، ونجح في توحيد مصر والشام والجزيرة العربية والحجاز، مما شكّل قوة إسلامية واحدة قادرة على مواجهة التهديد الصليبي.

استعداد صلاح الدين لمواجهة الصليبيين

لم يبدأ صلاح الدين المعركة مباشرة، بل ركّز على إعداد جيشه ووضع استراتيجية بعيدة المدى. بدأ بتعزيز قدرات جيشه من خلال التدريب المستمر وإنشاء أسطول بحري قوي. إضافةً إلى ذلك، استولى على مدن ساحلية هامة مثل عكا وبيروت لتقليص دعم الصليبيين من أوروبا.

وشهدت تلك الفترة صراعًا طويل الأمد بين المسلمين والصليبيين منذ الحملة الصليبية الأولى عام 1099م. استولى الصليبيون على القدس وأسسوا ممالك وإمارات صليبية على الأراضي الإسلامية، مما جعل المواجهة حتمية.

تسببت ممارسات الصليبيين العدائية، خاصة من قِبل أرناط، أمير الكرك، في زيادة التوتر. حيث قام أرناط بنهب قوافل المسلمين والحجاج، وهدد المدن المقدسة كالكعبة والمدينة المنورة، وارتكب جرائم مروعة، مما جعل صلاح الدين يُدرك ضرورة التحرك العسكري.

وكان آخر اعتداء قام به أرناط كان الهجوم على قافلة تجارية ضخمة وقتل وأسر من فيها. هذه الحادثة كانت الشرارة الأخيرة التي دفعت صلاح الدين إلى إعلان الحرب.

معركة حطين

في ربيع عام 1187م، بدأ صلاح الدين التحرك من دمشق بجيش كبير وقوي. عبر نهر الأردن وسيطر على منطقة بيسان، وقطع وصول الإمدادات إلى الصليبيين.

حشد قادة الصليبيين وعلى رأسهم الملك غي دي لوزينيان وأرناط، الجيوش وتوجهوا نحو جيش المسلمين. لكن صلاح الدين بخطته الذكية استدرجهم إلى منطقة حطين القريبة من بحيرة طبرية، وهي منطقة تعاني من نقص في المياه.

في 4 يوليو 1187م، بدأت المعركة بهجوم شامل من جيش المسلمين. استغل صلاح الدين موقعه الاستراتيجي في أعلى المرتفعات، حيث كان الجيش الصليبي منهكًا بسبب نقص المياه والحرارة.

انهار الصليبيون بعد يومين من القتال الشاق، وأسفرت المعركة عن مقتل عدد كبير منهم وأُسر المسلمون الملك غي وأرناط.

عامل صلاح الدين الملك غي باحترام، لكنه قتل أرناط بسبب اعتداءاته المتكررة وسخريته من النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

فتح ساحل الشام

ساحل الشام كان من أهم المراكز الاقتصادية والعسكرية للدولة البيزنطية. ومدن مثل عكا، بيروت، وصيدا كانت موانئ استراتيجية تربط الإمارات الصليبية في المشرق بأوروبا.

بعد انتصاره الساحق في معركة حطين عام 1187م، بدأ صلاح الدين بتحرير المدن الساحلية. كانت عكا أول مدينة استهدفها لما تمتلكه من أهمية تجارية وعسكرية. حاصر صلاح الدين المدينة ونجح في فتحها، محررًا أكثر من 4000 أسير مسلم، ومستوليًا على كميات ضخمة من الأسلحة والبضائع.

بعد عكا، توجه صلاح الدين نحو بيروت، التي كانت قاعدة مهمة للصليبيين. خلال حصار قصير، استسلمت المدينة خلال سبعة أيام. أما صيدا، فقد فتحها صلاح الدين بسهولة خلال يومين، مما عزز سيطرته على الساحل الشامي.

وكانت عسقلان تُعتبر الحصن الحامي للممالك الصليبية في الجنوب. رغم صعوبة المعركة، نجح صلاح الدين في السيطرة عليها، وفتح الطريق نحو تحرير غزة بدون قتال، مؤمّنًا الساحل الجنوبي للشام.

استعاد صلاح الدين ساحل الشام وكانت خطوة مهمة لقطع الإمدادات الأوروبية عن الإمارات الصليبية، مما سهل لاحقًا استعادة القدس.

فتح بيت المقدس

القدس كانت جوهرة المدن الإسلامية المقدسة التي احتلها الصليبيون عام 1099م، وقاموا بمذابح مروعة ضد سكانها. استعادتها كانت الهدف الأسمى لصلاح الدين.

في أكتوبر 1187م، وصل صلاح الدين بجيشه إلى القدس بعد تأمين الساحل. حاصر المدينة من عدة جهات، مركزًا على عين سلوان لتوفير المياه لجيشه. ولم يكن في المدينة سوى 1400 جندي فقط لحمايتها، والباقي من الأهالي والفقراء الين ليس لديهم خبرة في القتال

قاد الدفاع عن القدس القائد الصليبي باليان بن بارزان، وهو قائد كبير من القادة الفرنج. قام بحشد السكان، بما في ذلك الكهنة والشمامسة، لمواجهة المسلمين وحثهم على القتال بكل قوتهم حتى لا يتعرضوا لمذابح جديدة. أرسل إليه صلاح الدين كي يسلم المدينة لكنه رفض وظل يقاتل بكل قوته، واستمرت المعارك بشكل عنيف لمدة أسبوعين، لكن قوات المسلمين تمكنت من إحكام الحصار.

بعد اشتداد الحصار واستسلام القوات الصليبية، قرر صلاح الدين دخول المدينة بسلام في 2 أكتوبر 1187م، الموفق ليلة 27 رجب عام 583 هـ. ثم فرض فدية 10 دنانير على كل رجل، و5 دنانير على كل امرأة، و2 دينار على كل صبي، على أن يتم الدفع خلال 40 يومًا. وعفا  صلاح الدين عن الفقراء الذين لم يتمكنوا من دفع الفدية. فكان هذا السلوك نقيضًا لما فعله الصليبيون عند احتلالهم المدينة.

ثم سمح صلاح الدين بعودة اليهود للقدس، وأمر بتنظيف المسجد الأقصى، الذي حُوّل إلى كنيسة، وأعاد للمسجد مكانته الإسلامية. كما أزال الصلبان من قبة الصخرة، وجعل من المدينة مركزًا إسلاميًا دينيًا وعلميًا.

الحملة الصليبية الثالثة

كانت الحملة الصليبية الثالثة (1189–1192م)من أهم نتائج تحرير بيت المقدس. حيث جاءت لاستعادة القدس من صلاح الدين الأيوبي، وقادها ملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد، والإمبراطور الألماني فريدريك بربروسا، والملك الفرنسي فيليب الثاني أغسطس.

بدأت الحملة بفشل فريدريك بربروسا في عبور الأناضول بسبب غرقه. لكن استمر الإنجليز والفرنسيون، واستطاع ريتشارد تحقيق انتصارات مثل استعادة عكا في 1191م، لكنه فشل في اقتحام القدس.

وانتهت الحملة بمعاهدة صلح الرملة (1192م)، التي ضمنت للمسيحيين حرية الحج للقدس دون تغيير سيادتها الإسلامية.

نتائج فتح القدس

أدت فتوحات صلاح الدين إلى تعزيز الروح الإسلامية ووحدة المسلمين تحت راية واحدة، مما شكل حاجزًا قويًا أمام التوسع الصليبي.

باستعادة الساحل والقدس، انهارت الإمارات الصليبية تدريجيًا، وانحصر وجودها في شريط ساحلي صغير.

أصبحت القدس تحت سيطرة المسلمين مرة أخرى، وتم تعزيز مكانتها كمركز ديني وثقافي.

أظهرت انتصارات صلاح الدين عدالة الإسلام وقيمه الأخلاقية، بفضل معاملته مع المسيحيين، ما أكسبه احترامًا كبيرًا حتى من أعدائه في أوروبا.

ظل تحرير القدس محطة فارقة في تاريخ المسلمين، جعل صلاح الدين رمزًا وقائدًا عظيمًا وليس مجرد قائد عسكري.

اقرأ أيضًا: فتح بيت المقدس في عهد عمر بن الخطاب

المصادر:

ابن الأثير: الكامل في التاريخ.

محمد علي الصلابي: صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير البيت الأقصى.

ابن شداد: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية.

ابن كثير: البداية والنهاية.

موقع قصة الإسلام: صلاح الدين الأيوبي.