كان فتح بيت المقدس في عهد عمر بن الخطاب، حدثًا عظيمًا؛ نظرًا لما تتمتع به القدس من مكانة دينية وتاريخية، فهي بلد الأنبياء، وأول قبلة للمسلمين. كان بيت المقدس دائمًا محط أنظار الامبراطوريات والديانات المختلفة، فقد سيطر عليه الروم لقرون طويلة، ودخلوا في صراع مع الفرس، الذين نهبوا المدينة وقتلوا عشرات الآلاف من النصارى. وعندما وقف المسلمون على أعتاب المدينة، شعر المسيحيون بالخطر والخوف من تعرضهم لمذبحة ثانية. لذلك دافعوا عن المدينة بكل استماتة، حتى استسلموا وحصلوا على العهد العمرية، وعاشوا في أمان تحت الحكم الإسلامي.

 

قبل الحصار

كان بيت المقدس قاعدة للجيش البيزنطي، ومكان تجمع البيزنطيين الذين هربوا من شمال الشام والمدن التي فتحها المسلمون. فبعد هزيمتهم في أجنادين واليرموك وفتح دمشق وحمص وبعلبك، لم يجدوا مكانًا آمنًا لهم سوى القدس، فلجأوا إليها. وكان الأرطبون وهو القائد الأعظم للجيش والرجل الثاني بعد هرقل، احتمى أيضًا داخل المدينة بعد هربه من جيوش المسلمين، وكان برفقته كبارة القادة العسكريين للروم.

وكانت فتوحات الشام قد بدأت في عهد أبي بكر الصديق بعد انتهاءه من حروب الردة. فقد أرسل 4 جيوش إلى الشام، وعين على كل جيش أمير، وأمره أن يدخل الشام من طريق مختلف. وقادة الشام هم: عمرو بن العاص، أبو عبيدة بن الجراح، يزيد بن أبي سفيان، شرحبيل بن حسنة. ثم انضم إليهم خالد بن الوليد بعد انتصاراته على الفرس في العراق، وتولى القيادة العامة للجيش. لكن بعد وفاة أبي بكر واستلام عمر بن الخطاب الخلافة، عزل خالد من القيادة العامة، وعين أبو عبيدة بن الجراح.

 

حصار بيت المقدس

كان عمرو بن العاص المسؤول عن حصار بيت المقدس وقائد الجبهة الفلسطينية. وكان ذلك في نفس الوقت الذي انشغل أبو عبيدة وخالد في فتح شمال الشام. واجه عمرو مقاومة كبيرة من حامية القدس وسكانها، وتعرض لهجمات متتالية. حيث ضرب البيزنطيون المواقع العسكرية للمسلمين بالمنجنيق من فوق الأسوار؛ فتعرض عمرو لأضرار في المعدات والأرواح. والأسوأ هو حلول فصل الشتاء، وكان قارسًا وشديد البرودة، فسقطت الأمطار والثلوج فوق رؤوس الجنود المسلمين. وبينما يتعرض الجيش الإسلامي لضربات البيزنطيين وسوء الطقس، تأمل سكان القدس في فك الحصار ورحيل المسلمون، لكن لم يحدث.

تحمل عمرو بن العاص كل هذه المصاعب، لكنه أدرك عدم تمكنه من فتح بيت المقدس بدون مساعدة الخليفة. لذلك أرسل إلى عمر بن الخطاب وطلب الامدادات منه، فسارع عمر لنجدته. فبعد أن نجح أبو عبيدة بن الجراح ومعه قادة الشام في فتح شمال البلاد، مثل دمشق وحمص وبعلبك، كانت أنظارهم تتوجه إلى القدس أو قيسارية. فأرسل عمر أبو عبيدة وخالد لمساعدة عمرو في القدس، وأرسل معاوية بن أبي سفيان إلى قيسارية، حتى يشتت قوة الروم.

تسلم أبو عبيدة قيادة الجيش الذي يحاصر القدس، وبدأ الروم يشعرون بالخطر بسبب انقطاع اتصالهم بالمدن الأخرى وانتصارات المسلمين المتتالية في الشام. وفي هذا الوضع الذي يمر به أهل القدس، هرب الأرطبون إلى مصر، وتسلم صفرونيوس وهو بطريرك المدينة الدفاع عنها.

بدأ صفرنيوس في تحصين المدينة، وتجميع أهل القدس وتشجعيهم على الصمود، فطال الحصار 4 أشهر. وخلال ذلك عرض أبو عبيدة على البطريرك الدخول في الإسلام، أو الاستسلام ودفع الجزية، وكان الحل الأخير هو الاستمرار في القتال. كان أهل القدس لا يزالون يتذكرون ما فعله الفرس بهم عند اقتحامهم المدينة، لذلك كان أفضل خيار لهم هو الاستسلام مقابل الحصول على عهد الأمان.

 

فتح بيت المقدس في عهد عمر بن الخطاب

قبل صفرونيوس تسليم المدينة للمسلمين، لكن بشرط قدوم خليفة المسلمين عمر بن الخطاب إلى القدس. وكان عمر في الجابية، وبعد استشارة الصحابة، قرر الذهاب إلى القدس. واختلف المؤرخون في تاريخ فتح بيت المقدس في عهد عمر بن الخطاب ودخوله المدينة. فهناك من قال سنة 15 من الهجرة، وهناك من قال 16 من الهجرة.

بعد وصول عمر، عقد الصلح وكتب وثيقة لسكان القدس، عُرِفت بالعهدة العمرية. وتوجد عدة روايات تاريخية حول مضمون الوثيقة، لكنها جميعًا بنفس المضمون. وجاء في نص الصلح ” بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب كتبه عمر بن الخطاب لأهل بيت المقدس، إنكم آمنون على دمائكم وأموالكم وكنائسكم، لا تسكن ولا تخرب إلا أن تحدثوا حدثًا عامًا، وأشهد شهودًا”.

وفي رواية أخرى ” بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها، وسائر ملتها…. يشهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب وحضر سنة خمس عشرة”.

 

دخول عمر بيت المقدس

بعد عقد الصلح دخل عمر بن الخطاب إلى بيت المقدس، وكان برفقته صفرونيوس بطريرك، الذي أخذه في جولة بين آثار المدينة التاريخية. ثم دخلوا معًا إلى كنيسة القيامة، وعندما دخل وقت الصلاة، شعر البطريرك أن عمر يريد أن يصلي، فاقترح عليه أن يصلي داخل الكنيسة. لكن عمر رضي الله عنه رفض ذلك، خوفًا من أن يأخذها المسلمون عادة، فيصلون في الكنائس ويتعدون على حرية المسيحيين، وهذا طبعًا يخالف نص وثيقة الصلح.

خرج عمر من كنيسة القيامة، حتى وصل إلى مكان وصلى فيه، فبني المسلمون في هذا المكان مسجدًا بعد ذلك، عُرِف بجامع عمر. وبعد 10 أيام غادر القدس وسافر إلى الجابية مرة ثانية، ليستكمل تنظيم أمور الدولة في بلاد الشام.

 

ما بعد فتح بيت المقدس

بعد أن سمعت المدن والقرى المجاورة ما حدث في القدس، وأن أهلها حصلوا على الأمان على أرواحهم وأموالهم، ولهم حرية الاعتقاد، تسابقوا في الحصول على الصلح، مثل أهل اللد.

وفي الوقت الذي كان يحاصر المسلمون القدس، كان معاوية بن أبي سفيان يحاصر قيسارية. وكان يزيد بن أبي سفيان هو المسؤول عن حصارها، لكنه مرض فاستخلف معاوية مكانه، وعاد إلى دمشق، ثم مات بطاعون عمواس سنة 18 من الهجرة.

ولم تكن هذه المرة الأولى التي يحاصر فيها المسلمون قيسارية. فقد بدأ الحصار عمرو بن العاص منذ عام 13 من الهجرة. لكنه اضطر للانسحاب والانضمام إلى بقية الجيوش في أجنادين واليرموك، ثم انتقل إلى فلسطين.

كانت قيسارية على ساحل بلاد الشام، وذات موقع استراتيجي للبيزنطيين، لأنها نقطة الصلة بينهم وبين موطنهم الأصلي. دافع البيزنطيون عن قياسرية بكل استماتة، ودخلوا مع الجيش الإسلامي بقيادة معاوية في مناوشات كثيرة. لم يستطع معاوية فتح المدينة رغم صموده، إلا بمساعدة رجل يهودي. وكان اليهود والبيزنطيين بينهما عدواة وكراهية، بعد قيامهم بثورة، فقتل الروم أعداد كبيرة منهم.

ذهب الرجل اليهودي وكان يدعى يوسف إلى سيدنا معاوية، ودله على نفق يستطيع الدخول منه إلى المدينة. نجح بعض الجنود المسلمين في التسلل عبر النفق والوصول إلى بوابة المدينة وفتحها، فدخل الجيش الإسلامي. تفاجأ الروم بدخول المسلمين، وعندما حاولوا الهرب من النفق، اعترض طريقهم بعض الجنود. وتم فتح قيسارية في شوال سنة 19 من الهجرة.

وعلى جهة أخرى، استكمل شرحبيل بن حسنة فتوحاته في الأردن، ففتح الجولان وسوسيه وجرش. ونجح الخليفة وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب في فرض سيطرته على بلاد الشام.

اقرأ أيضًا: تاريخ فلسطين القديم: أول من سكن القدس وتظهور بني إسرائيل

 

 

المصادر:

الطبري: تاريخ الطبري.

البلاذري فتوح البلدان.

التاريخ اليعقوبي: ج2 ص37.

الواقدي: فتوح الشام.

موقع قصة الإسلام: فتح بيت المقدس والعهدة العمرية.

الوسوم :

التعليقات

لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات مشابهة

عرض جميع المقالات