مملكة القدس اللاتينية أو مملكة بيت المقدس، مملكة كاثوليكية وهي أكبر ممالك الصليبين في الشرق. أنشئت المملكة خلال الحملة الصليبية الأولى على بلاد الشام سنة 1099م، واستمرت حتى عصر صلاح الدين الأيوبي الذي فتح القدس وعدد من المدن الفلسطينية عام 1187م، ثم انتهت تمامًا على يد سلاطين المماليك الظاهر بيبرس والأشرف خليل عام 1291م.

زالت المملكة بشكل نهائي خلال قرنين من الزمان، وعادت السيطرة للمسلمين على الشام وفلسطين حتى الحرب العالمية الثانية. ثم يعودون من جديد بعد أكثر من 600 سنة، ويتم إعلان الانتداب البريطاني على فلسطين، ثم تسلميها للصهاينة وإعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948م.

أسباب الحملة الصليبية الأولى وتأسيس المملكة

كانت هناك عدة أسباب لحصار القدس وتأسيس مملكة بيت المقدس، ففي عام 1095م، قام البابا أوربان الثاني بعقد مجمع كليرمونت بهدف مساعدة الدولة البيزنطية في صد هجمات السلاجقة على أراضيها في الأناضول، الذين فتحوا جزءً كبيرًا منها. وكان هناك أيضًا أسبابًا دينية وسياسية، حيث أراد البيزنطيون استعادة سيطرتهم على القدس والشام بعدما طردهم منها المسلمون في عصر الخلفاء الراشدين. ونجح البيزنطيون في العودة من جديد بعد 400 عام تقريبًا.

حصار القدس

في عام 1098م، انطلقت الحملة الصليبية الأولى، واستطاعت هزيمة السلاجقة والسيطرة على الرها وأنطاكية. وتابعت الحملة طريقها على ساحل الشام في اتجاه الجنوب حتى وصلت إلى القدس وحاصرتها في 7 يونيو 1099، وبعد شهر تمكن الصليبيون من اقتحام المدينة في 15 يوليو 1099م، قبل وصول الجيش الفاطمي.

وقام الصليبيون بالسلب والنهب وعمليات القتل الجماعي، فقتلوا 70 ألفًا من أهل المدينة، وقيل 20 ألفًا. وذكر المؤرخون أن الصليبين قاموا بمجزرة رهيبة فور اقتحامهم بيت المقدس.

وخلال يومين عقد قادة الحملة والأمراء اجتماعًا لاختيار ملك القدس وتوزيع الأراضي التي سيطروا عليها مثل بيت لحم والرملة واللد. وتقدم عدد من المرشحين كان أبرزهم جودفري بن بويون الفرنسي، وريمون الرابع صديق البابا. ووقع الاختيار في نهاية المطاف على جودفري الأول ليكون ملك مملكة بيت المقدس.

أظهر جودفري ورعًا وتقوى ورفض أن يرتدي تاجًا في البلد الذي لبس فيه يسوع تاجًا من شوك، حسب الانجيل، ولقب نفسه بـ”حامي بيت المقدس”. ثم أقيل كهنة كنسية القيامة، وعين مكانهم كهنة كاثوليك.

قام الصليبيون بحملات لتوسع مملكة بيت المقدس، ففتحوا نابلس، ثم هزموا الجيش الفاطمي وسيطروا على عسقلان ويافا وغزة وحيفا وبيسان وطبرية وعكا. ثم وقع خلاف بين الملك جودفري وبين الكونت ريموند على عسقلان، حيث رأى جودفري أنها تابعة للقدس، بينما أراد ريموند أن يجعلها إمارة منفصلة ويستقل بها. كما اختلف أيضًا أمراء المملكة في طبيعة الحكم بين كونها مملكة دينية يحكمها مبعوث البابا، أو مدنية يحكمها جودفري، واستقروا على كونها مدنية.

مات الملك جودفري عام 1100م بسبب المرض، وخلفه أخيه بالدوين الأول وتم تتويجه في بيت لحم يوم 25 ديسمبر 1100م، يوم عيد الميلاد. وعُرِف بالدوين الأول بملك المملكة اللاتينية في القدس، وقسم الدولة إلى 4 مطرانيات وأبرشيات كثيرة تحت سلطة بطريرك القدس.

توسع المملكة في عهد بلدوين الأول

قام بالدوين الأول بتوسيع حدود المملكة، وجلب مستوطنين لاتينيين من أوروبا الغربية. وفي عام 1101 عقد اتفاقية مع السلاجقة في دمشق ضمنت له تنظيم المناطق الحدودية والتجارة. ثم سيطر على غور الأردن عام 1115م، وقبلها فتح عكا وبيروت وصيدا.

أسس بلدوين نظامًا اقطاعيًا وحكمًا وراثيًا ظل محصورًا في سلالته. وهزم سلاجقة دمشق والموصل سنة 1113م، وحقق سلسلة انتصارات في الجزء الجنوبي الغربي من فلسطين. وجمع نبلاء المملكة وباروناتها في مجلس واحد، ووجد طريقة مناسبة لتوزيع القرى والبلدان.

ثم بنى مجموعة من الحصون لتقوية الحدود مع جيرانه. لكن بسبب بعد التجمعات السكانية عن بعضها البعض كان من السهل انقسام المملكة وانعزالها في الحرب.  كما أن بعد المملكة عن الامبراطورية البيزنطية ووجودها قرب الدل الإسلامية في الشام ومصر سرّع من سقوط عاصمتها القدس سنة 1187م على يد صلح الدين الأيوبي.

وحظر بلدوين على المسلمين واليهود من الإقامة داخل الأسوار، وجعل الحي الشرقي الذي كان يقيم فيه اليهود مكانًا لإقامة الأرثوذكس، حيث أصدر مرسومًا بذلك عام 1115م.

مات بالدوين الأول دون أن يترك خلفه أبناء سنة 1118م، فاستلم عرش مملكة بيت المقدس ابن عمه بالدوين الثاني، الذي كان يشغل منصب كونت الرها. كان بلدوين الثاني قويًا ونجح في صد هجمات السلاجقة والفاطميين. ثم أنشأ طلائع المنظمات العسكرية الصليبية وأشهرها الاسبتارية وفرسان الهيكل. وفي عهده تم فتح مدينة صور بعدما عقد اتفاقية تجارية مع البندقية عام 1124م. وكان لبلدوين الثاني نفوذَا كبيرًا فقام بدور الوصي على إمارة الرها وأنطاكية. لكنه توفي عام 1131، وترك خلفه 4 بنات، وورثت العرش بعده ابنته البكر ميليسندا وزوجها فولك. وقد اعترض الأمراء في الرها وأنطاكية وطرابلس على حكم فولك، وقامت حرب أهلية صغيرة سنة 1132م، وانتصر فيها فولك. ونجحت الملكة ميليسندا في إدارة المملكة، ولم يتخذ زوجها أي قرار بدون العودة إليها.

ظهور الزنكيون على مسرح الأحداث

كان الأتابكة الزنكيون بمثابة عامل خطر على مملكة بيت المقدس، حيث توسعوا ناحية الغرب في اتجاه حلب. وبعد وفاة فولك سنة 1143م، عينت الملكة ميليسندا ابنها بالدوين الثالث ملكًا تحت الوصاية. ثم نجح عماد الدين زنكي في فتح إمارة الرها 1144م، لذلك جهز الصليبيون للحملة الثانية، التي وصلت إلى فلسطين خلال عامين وانتهت بالفشل. بعدها سيطر نور الدين زنكي على دمشق ووحد سوريا تحت حكمه.

وفي الوقت الذي قويت فيه شوكة الزنكيين في سوريا، اشتعل الخلاف بين الملكة وابنها بالدوين الثالث. أراد ابلدوين لاستقلال بالحكم بعيدًا عن وصايتها رغم أنه ما زال قاصرًا، وشجعه على ذلك أمراء طرابلس وأنطاكية. ووصل الأمر إلى تقسيم حكم المملكة بينهما حتى حاصرها في برج داوود داخل القدس، فأعلنت استسلامها، وتم تتويجه ملكًا وحيدًا على العرش.

وبعد وفاة بالدوين الثالث عام 1162م، استلم الحكم شقيقه أمالريك الأول الذي قرر غزو مصر بسبب ما أصابها من ضعف وفوضى في نهاية عصر الدولة الفاطمية. اضطر الخليفة الفاطمي العاضد إلى طلب المساعدة من الدولة الزنكية، فأرسل نور الدين جيشًا إلى مصر بقيادة أسد الدين شيركوه. ثم جرت اتفاقيات بين القدس ودمشق وانسحب الجيشين من مصر. وانتصر الزنكيون على جيشي إمارة طرابلس وأنطاكية، وأسروا بوهيموند الثالث أمير طرابلس، فأرسل الامبراطور جيشًا كبيرًا أدى إلى انسحاب الجيش الزنكي.

تصاعد الصراع بين الصليبين والزنكيين في مصر مرة ثانية، واستطاع أسد الدين شيركوه حماية مصر ثم استلم الوزارة التي سلمها لاحقًا لابن أخيه صلاح الدين الأيوبي. وبعد وفاة نور الدين زنكي أعلن صلاح الدين نفسه سلطان مصر، ثم سيطر على أملاك الدولة الزنكية في سوريا.

نهاية مملكة بيت المقدس

وبعد وفاة الملك أمالريك عام 1174م، استلم الحكم ابنه القاصر بلدوين الرابع وكان مصابًا بالجذام. وفي عهده نشب صراع بين القوى الداخلية، خاصة بين حزب والدته وعائلتها وبين ريموند الثالث أمير طرابلس، الذي أصبح الوصي على العرش. ولم يكن لبلدوين الرابع أطفال وبسبب الجذام لم يتوقع أن يعيش فترة طويلة، لذلك نشب صراع على ولاية العهد. وصل الأمر إلى انتقال العرش إلى أخته غير الشقيقة سبيلا التي أنجبت بلدوين الخامس وأصبح هو وليًا للعهد. ثم تزوجت سبيلا غي دي لوزنيان، ومع تفاقم مرض الملك، تسلم أمور الحكم مع زوجته سبيلا. ثم عزل الملك غي من ولاية العهد وجعلها لابن أخته بلدوين الخامس وجعل ريموند الثالث وصيًا عليه.

في تلك الأثناء كان صلاح الدين يشن حملات على الكرك ونابلس، لكن استطاعت مملكة القدس في صد الهجمات وفك أي حصار. وبعد وفاة بلدوين الرابع استلم الحكم الطفل بلدوين الخامس 1185م، لكنه مات خلال سنة واحدة بسبب المرض. تسلمت سبيلا أخت بلدوين الرابع العرش بشرط إلغاء زواجها من غي، لكن بعد تتويجها اختارته زوجًا لها مرة ثانية. لذلك غادر ريموند الثالث إلى طرابلس ناقمًا واتفق مع صلاح الدين الأيوبي للانتقام من غي.

وفي عام 1187م، كانت معركة حطين التي هزم فيها صلاح الدين جيش مملكة القدس وأسر ملكها غي دي لوزنيان. ثم فتح عكا ونابلس وحيفا والناصرة وقيسارية وصفورية وبيروت وجبيل وتبنين. وكان حصار القدس في 20 ديسمبر سنة 1187م، وتم فتحها خلال أيام وطرد البيزنطيين والصليبين منها.

بعد خسارة القدس أرسل الصليبيون الحملة الثالثة واستعادوا الساحل الفلسطيني وأصبحت عكا عاصمة مملكتهم بدلًا من القدس. وصمدت تقريبًا 100 سنة أخرى رغم الخلاف بين الأمراء على الحكم، حتى انتهت تمامًا على يد المماليك سنة 1291م.

اقرأ أيضًا: فتح بيت المقدس في عهد عمر بن الخطاب

المصادر:

الاستيطان الصليبي في القدس: مملكة بيت المقدس اللاتينية، يوشع براور. ترجمة عبد الحافظ البنا، دار عين للنشر والدراسات، الزقازيق 2001، ص.29.

سيد أمير علي، مختصر تاريخ العرب والتمدن الإسلامي، ص279، منقولة عن “إدوارد غيبون”، القاهرة – مصر، 1938م.

تيسير بن موسى(2003). نظرة عربية على تاريخ حروب الإفرنج من بداية الحروب الصليبية حتى وفاة نور الدين، 99.

ابن الأثير: الكامل في التاريخ.

موقع قصة الإسلام: من يحكم القدس؟

الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والصليبي. د علي الصلابي. صفحة482.