عبد الرحمن الحمضيات

 

لا يمكن أن يُختصر الفداء في أعمار أو يُقاس بالشوارب. ففي أرض تُسقى كل يوم من دم طفل، ليس غريبًا أن يولد من بين أزقتها مجاهد في هيئة فتى، يخجل الرجال من عزيمته. كان صباح عبد الغني القحف، ابن الرابعة عشرة، أحد هؤلاء الأطفال الكبار الذين خُلقوا ليتركوا بصمتهم في ساحة لا ترحم، رافضًا أن تبقى طفولته رهينة الخوف أو التراجع.

 

الهروب الأول إلى المعركة

حين اندلعت نكبة 1948، واشتعلت القدس بالمجاهدين، رفض والد صباح أن يسمح له بالذهاب إلى ساحة القتال، ربما بدافع الخوف أو الحرص الأبوي الطبيعي. لكن صباح لم ينتظر إذنًا من أحد. هرب من منزل عائلته في عمّان، ولحق بشقيقه الأكبر محمد الذي كان قد سبقه إلى هناك. لم يكن الهروب تهوّرًا عابرًا، بل بداية قصة عنادٍ بطولي، حاولت أمه كبحه بدموعها، لكن الوطن كان عند صباح أثقل من العائلة والنجاة.

 

رفضه جيش الدفاع المقدس… ثم قبِلَه

حين وصل صباح إلى مواقع جيش الإنقاذ العربي، حاول الانخراط في صفوف المجاهدين، لكنهم أعادوه إلى عائلته لحداثة سنه. لم تمضِ أيام حتى عاد من جديد، هذه المرة بإصرار لا يقبل النقاش. أمام إلحاحه وصدق عينيه، قَبِلوه، وجعلوه ضمن فرقة التدمير، إحدى أخطر المهام العسكرية، والمخصصة لتفخيخ مواقع العدو وتفجيرها.

 

مهمة بلا عودة

خلال اشتباكات في حي معر مشيرم بالقدس، خرج صباح مع رفيقه المجاهد جمال بازيان، وهو فتى من عمره، في مهمة لزرع لغم قرب منزلٍ يتحصن فيه جنود الاحتلال. نفّذ الفتيان المهمة بنجاح، لكن رصاصة قناص أصابت صباح أثناء عودته، وسقط في الميدان، يتلوى من النزف، فيما صاح جمال باكيًا، يطلب من رفاقه إنقاذه. لم تنجح محاولة إسعافه، وفارق الحياة بعد ساعات في المستشفى، ليُدفن وهو في ربيع طفولته، لكنه بجبين لا ينحني.

حين يودّع الآباء أبناءهم واقفين

وصل جثمان صباح إلى عمّان، وهناك، في لحظة تُمتحن فيها القلوب، كشف والده الكفن عن وجه ابنه، وقال كلمته الشهيرة: “أخصّ عليك يا مقصوف… سبقتني إلى الشهادة!” لم تكن الكلمة لومًا، بل دهشة رجلٍ رأى طفله يختار الطريق الذي يخشاه الكبار. وببداهة المؤمنين، جهّز عبد الغني ابنه الأصغر — الذي لم يبلغ الثالثة عشرة — وأرسله هو الآخر إلى القدس، ليكمل ما بدأه صباح. ولم يكن هذا عبثًا بالدماء، بل إيمانًا بأن الكرامة لا تُورّث بالتمنّي، بل بالفعل.

من المعاذ إلى صباح: سيرة الطفولة المقاتلة

تشبه قصة صباح بطولات المعاذ والمعوّذ، الفتيين اللذين قاتلا أبا جهل في بدر. وتماثل أيضًا حكايات أطفال الحجارة الذين واجهوا بنادق الاحتلال بصدورهم العارية. لكن صباح ينفرد بشيء آخر: لم يُؤخذ إلى المعركة، بل أخذ نفسه إليها، وكتب نهايةً تختلط فيها الطفولة بالشهادة، والبراءة بالبطولة.

في فلسطين، لا تموت الطفولة، لكنها تتقمص أدوار الرجال حين يعجز الرجال. وصباح، هذا الفتى الهارب من الحماية نحو النار، ليس أسطورة، بل فصل حيٌّ من رواية الوطن، كُتب بدمه، وسيُروى ما دام في الأرض أطفال يشبهونه

المصادر والمراجع:
كارثة فلسطين، مذكرات عبد الله التل
بطولات عربية من فلسطين

الوسوم :

التعليقات

لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات مشابهة

عرض جميع المقالات