شهدت الأندلس في عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله ذروة مجدها الحضاري والسياسي. تولى الحكم بعد والده عبد الرحمن الناصر لدين الله عام 350هـ، ليبدأ عهدًا تميز بالاستقرار والازدهار في جميع المجالات. وتحت حكمه، تحولت قرطبة إلى أهم مركز ثقافي في أوروبا وأكثر مدن العالم الإسلامي تطورًا.
نشأته
نشأ الحكم في قصر الخلافة بقرطبة حيث تلقى تعليمًا شاملًا. وحرص والده على إعداده للإمارة منذ الصغر، فدرس على يد كبار العلماء في مختلف المجالات. أتقن اللغات العربية والفارسية واللاتينية، وبرع في العلوم الشرعية والعقلية. كما تلقى تدريبًا عسكريًا مكثفًا، حيث شارك في الحملات مع والده لاكتساب الخبرة الميدانية.
صفات الحكم المستنصر بالله
تميز الحكم المستنصر بالله تاسع أمراء الدولة الأموية وثاني خلفاء الأندلس بشخصية فريدة جمعت بين عمق العلم وحكمة السياسة. حيث كان نموذجًا للحاكم العالم الذي يجمع بين السلطة والمعرفة. عُرف عنه شغفه بالعلم والأدب، فكان يقضي ساعات طويلة في مكتبته الشهيرة يطالع الكتب، ويجالس العلماء والأدباء في مناظرات فكرية.
وفي نفس الوقت، كان قائدًا حازمًا لا يتردد في اتخاذ القرارات الصعبة عندما تمس مصالح الدولة. تمتع بذاكرة قوية وذكاء حاد، مع ميل إلى التأمل والتحليل، مما جعله يستشرف الأحداث قبل وقوعها ويتخذ الاحتياطات اللازمة.
من الناحية الخُلقية، عُرف الحكم المستنصر بالتواضع رغم مكانته، والعدل في الحكم، والكرم مع العلماء والفقراء. وكان يميل إلى الهدوء والرصانة، ويبتعد عن الترف المبالغ فيه، مع حفاظه على مظاهر العظمة التي تليق بمقام الخلافة. كما تميز بفهم عميق لطبيعة البشر، فكان يختار معاونيه بعناية، ويجيد قراءة دواخل الرجال. مما مكنه من إدارة شؤون الدولة بكفاءة نادرة طوال فترة حكمه.
إنجازات الحكم المستنصر بالله
تولى الحكم الخلافة بعد وفاة أبيه عام 350 هـ، وكان له العديد من الإنجازات في مختلف المجالات كالتالي:
النظام الحكومي والإداري
أحدث الحكم المستنصر ثورة في الجهاز الإداري للدولة. حيث طور نظام الدواوين، خاصة ديوان الخاتم الذي كان مسؤولًا عن المراسلات الرسمية. وقسم الأندلس إلى 21 كورة (محافظة) لكل منها نظام إداري مستقل. واعتمد على وزراء أكفاء مثل جعفر المصحفي، وأنشأ مجلسًا للشورى يجتمع به بانتظام.
النهضة العلمية والتعليمية
بلغت الحركة العلمية في عهد الحكم المستنصر ذروتها غير المسبوقة. حيث أنشأ مكتبة قرطبة العظيمة التي ضمت 400 ألف مجلد، وجلب لها أمهر النساخ والمترجمين. وأسس 27 مدرسة مجانية في أنحاء المدينة، ورعى العلماء في مختلف التخصصات. وتحت إشرافه، أصبح مستشفى قرطبة الجامعي من أهم مراكز التعليم الطبي في العالم.
السياسة الدبلوماسية لـ الحكم المستنصر بالله
تميز عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله بسياسة خارجية متزنة جمعت بين القوة العسكرية والمرونة الدبلوماسية. ففي الجبهة المغربية، أدار الحكم علاقات معقدة مع الفاطميين ثم مع خلفائهم من الزيريين. حيث أرسل عدة بعثات دبلوماسية إلى قبائل المغرب لتأمين حدود الدولة الغربية، كما استقبل سفراء من مختلف الإمارات المغربية. وحرص على إبقاء طرق التجارة عبر مضيق جبل طارق مفتوحة، بينما كان يتابع باهتمام التطورات السياسية في المغرب الأقصى. وتذكر المصادر أنه أقام تحالفات مع بعض القبائل الصنهاجية لموازنة نفوذ الزيريين الموالين للفاطميين.
كما امتدت علاقات الحكم المستنصر الدبلوماسية إلى أبعد من جيرانه المباشرين. وتبادل السفراء والهدايا مع: الخلافة العباسية في بغداد، الإمبراطورية البيزنطية في القسطنطينية، بعض الإمارات الإيطالية، ومملكة الفرنجة الغربيين.
وكان بلاطه في قرطبة يستقبل البعثات الدبلوماسية بتقاليد فاخرة تظهر عظمة الدولة الأموية. حيث يذكر المؤرخون أن الهدايا التي كان يتبادلها مع الحكام الآخرين شملت المخطوطات النادرة والتحف الفنية والأسلحة المذهبة.
استخدم الحكم المستنصر التجارة كوسيلة لتعزيز النفوذ السياسي. حيث وقع اتفاقات تجارية مع جمهوريات إيطاليا البحرية وضمن حرية التجار الأندلسيين في الموانئ المسيحية. كما شجع تبادل البعثات التجارية مع المغرب والمشرق، واستخدم المنافع الاقتصادية كوسيلة ضغط سياسي
حملاته العسكرية ضد النورمان والممالك الشمالية
تميزت علاقة الحكم المستنصر بالله مع النورمان والممالك المسيحية بمزيج من الحذر العسكري والبراغماتية السياسية. في مواجهة النورمان، واصل سياسة أسلافه في تعزيز الدفاعات الساحلية وتطوير الأسطول البحري، مما حال دون تكرار الغزوات الكبرى التي شهدتها الأندلس في عهود سابقة. ولم تسجل المصادر سوى مواجهات بحرية محدودة، حيث نجح الأسطول الأموي في ردع أي محاولات للتوغل النورماني. مما يعكس فعالية الاستعدادات التي اتخذها الحكم المستنصر لحماية سواحل دولته.
على الجبهة المسيحية، خاض الحكم المستنصر حوالي خمسين حملة عسكرية ضد ممالك الشمال، خاصة ليون وقشتالة ونافارا، بهدف الحفاظ على حدود آمنة وفرض هيبة الدولة. وتميزت سياسته بالمرونة، حيث جمع بين الضربات العسكرية الحاسمة وعقد المعاهدات المؤقتة مع بعض الممالك، كما فرض الجزية على عدة أمراء مسيحيين.
في الوقت نفسه، استقبل في بلاطه سفراء هذه الممالك، مما يدل على فهمه لأهمية القنوات الدبلوماسية إلى جانب القوة العسكرية. وأنشأ نظامًا للثغور المحصنة على الحدود الشمالية، مع الحفاظ على شبكة من العلاقات التجارية والسياسية التي خدمت مصالح الدولة الأموية.
إنجازاته العمرانية والاقتصادية والاجتماعية
شهدت الأندلس في عهده طفرة معمارية غير مسبوقة. حيث وسع مسجد قرطبة الكبير وأضاف إليه محرابًا فريدًا. واستكمل بناء مدينة الزهراء التي أصبحت نموذجًا للعمارة الإسلامية الفاخرة. وطور شبكة الطرق والقنوات المائية، وأنشأ الحدائق العامة التي أضفت على قرطبة جمالًا أخاذًا.
وعلى الجانب الاقتصادي، حققت الأندلس في عهده اكتفاءً ذاتيًا وازدهارًا اقتصاديًا. حيث طور صناعة الورق في شاطبة التي أصبحت مشهورة بجودة منتجاتها. وأنشأ دارًا لسك العملة تضرب دنانير ذهبية عالية الجودة. وأدخل تحسينات كبيرة على الأساليب الزراعية، ونظم الري بشكل علمي دقيق.
كما اتبع سياسة التسامح الديني التي ميزت الأندلس. وحافظ على حقوق أهل الذمة وسمح لهم بممارسة شعائرهم بحرية. وأنشأ نظامًا للقضاء العادل، وكان يستقبل شكاوى الرعية بنفسه. واهتم بالفقراء والمحتاجين، وأنشأ دورًا للرعاية الاجتماعية.
وفاة الحكم المستنصر بالله
توفي عام 366هـ/976م بعد أن جعل من دولته أقوى كيان سياسي في أوروبا الغربية. وجاءت وفاته بعد رحلة مرض استمرت عامين، أعتق خلالهم 100 عبد، وأسقط الديون عن رعيته. ولم ينجب سوى ولدين، عبد الرحمن ومات طفلًا، وهشام وقد جعله وليًا للعهد.
اقرأ أيضًا: عثمان بن عفان رضي الله عنه
المصادر:
ابن حيان القرطبي: المقتبس من أنباء أهل الأندلس.
ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب.
المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب.
ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون.
أحمد بن محمد الرازي: أخبار ملوك الأندلس.
ليفي بروفنسال: تاريخ إسبانيا الإسلامية.
التعليقات
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!
اترك تعليق