كانت خلافة عمر بن عبد العزيز قصيرة، ورغم ذلك أحدث تأثيرًا واختلافًا كبيرًا في طريقة حكم بني أمية. فقد حكم بالعدل ورد المظالم وعزل الولاة الظالمين، وأعاد العمل بالشورى اقتضاءً بالخلفاء الراشدين. كما حرص على نشر العلم بين رعيته، فأرسل العلماء والفقهاء إلى جميع الأقاليم والبوادي. وخصص رواتب للعلماء كي يتفرغوا لنشر العلم. ويعود له الفضل أيضًا في تدوين الأحاديث النبوية الشريفة، بسبب خوفه من دس أحاديث مكذوبة وخلطها بالصحيح.

 

مبايعة عمر بن عبد العزيز بالخلافة

هناك الكثير من الروايات حول قصة استخلاف سليمان بن عبد الملك لعمر بن عبد العزيز. وقد ذكر ابن سعد في الطبقات أن رجاء بن حيوة، قد اقترح اسم عمر على سليمان ليكون ولي العهد. عندما مرض سليمان، كتب كتاب عهده إلى ابنه أيوب وهو غلام لم يبلغ. لكن رجاء بن حيوة اعترض على ذلك وقال له “ما تصنع يا أمير المؤمنين؟ إنه مما يُحفظ به الخليفة في قبره أن يستخلف الرجل الصالح”.

وبعد يومين مزق سليمان الكتاب، ثم قال: “ما ترى في داود بن سليمان؟”، فقال ابن حيوة: “هو غائب بقسطنطينية، وأنت لا تدري أحي هو أم ميت”. ثم سليمان: “كيف ترى عمر بن عبد العزيز؟”، فقال ابن حيوة: “أعلمه والله فاضلًا خيارًا مسلمًا”.

أدرك سليمان أن استخلافه لعمر سيؤدي إلى فتنة كبيرة، وقال “هو على ذلك، والله لئن ولّيته ولم أولِّ أحدًا من ولد عبد الملك لتكونن فتنة ولا يتركونه أبدًا يلي عليهم إلا أن أجعل أحدهم بعده”. لذلك جعل يزيد بن عبد الملك ولي العهد بعد عمر تسكينًا وإرضاء لأمراء بني أمية من أبناء عبد الملك.

ثم كتب سليمان بيده “بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني وليته الخلافة من بعدي، ومن بعده يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا، واتقوا الله ولا تختلفوا فيُطمع فيكم”.

أمر سليمان بجمع أمراء بني أمية، ثم جعل رجاء بن حيوة يأخذ منهم البيعة لمن ذكر اسمه في الكتاب، فبايعوا جميعًا. ولما مات سليمان، قرأ ابن حيوة الكتاب عليهم، فاعترض هشام بن عبد الملك على خلافة عمر بن عبد العزيز، وقال “لا نبايعه أبدًا”، فقال ابن حيوة: “اضرب والله عنقك، قم فبايع”. فقام هشام وبايع عمر وقال له: “إنا لله وإنا إليه راجعون”، أي بسبب تقديمه على ولد عبد الملك. فقال عمر: “نعم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، حين صار إلي لكراهتي له”.

 

خلافة عمر بن عبد العزيز

صعد عمر بن عبد العزيز على المنبر، وألقى خطبة خلافته، وكان ذلك يوم الجمعة 10 صفر سنة 99 من الهجرة. وقد بين في خطبته نهج حكمه، بأنه سيكون قائم على العدل والمشورة ورفع المظالم، وأنه لا طاعة له في معصية الخالق.

بدأ عمر خلافته بوقف التوسع في المناطق النائية، وسحب الجيش الإسلامي من مناطق القتال. وكان أول جيش يأمره بالتوقف والعودة، هو جيش مسلمة بن عبد الملك الذي كان يحاصر القسطنطينية لمدة سنتين تقريبًا. فقد كان الحصار صعبًا على الجنود المسلمين، وفشلوا في اقتحام المدينة برًا وبحرًا، وتعرضوا لمجاعة قاسية حتى أكلوا الدواب.

وكان عمر يرى ما يتعرض له الجيش خلال خلافة سليمان بن عبد الملك، لذلك سارع إلى تقديم المساعدة، فأرسل لهم طعامًا وخيلًا، وأمرهم بالعودة.

وبدأ يرسل أوامر بعودة المسلمين من بلاد الأندلس وما وراء النهر إشفاقًا عليهم. ولما فضلوا البقاء في أماكنهم، قال عمر: “اللهم إني قد قضيت الذي عليّ فلا تغزُ بالمسلمين، فحسبهم الذي فتح الله عليهم”.

ثم كتب إلى ملوك بلاد السند يدعوهم إلى الإسلام، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم. وكانت سيرته الطيبة قد وصلت إليهم، فأسلموا وتسموا بأسماء العرب.

وعندما أغار الترك على المسلمين في أذربيجان وقتلوا منهم عددًا، أرسل إليهم عبد العزيز حاتم بن النعمان الباهلي، فقتلهم وقدم معه 50 أسيرًا.

ولما أغار الروم على ساحل اللاذقية سنة 100 هـ، أمر بتحصينها. وأمر بإخلاء المسلمين من الأماكن التي تتعرض لغارات الروم، حماية لهم.

 

عمر بن عبد العزيز وملك الروم

كان عمر بن عبد العزيز، حازمًا في أخذ الحق، مدافعًا عن المسلمين في كل بقاع الأرض. فذات يوم أرسل عمر رسول إلى ملك الروم، فرأى الرسول هناك أسيرًا مسلمًا أجبره الملك على ترك الإسلام واعتناق النصرانية. وقال له: “إن لم تفعل سملت عينيك”، فلما رفض الرجل ترك الإسلام، سملت عيناه.

لما عاد الرسول قص على عمر أمر هذا الأسير، فبكى حتى ابتلت يداه. ثم أمر بإرسال كتاب إلى صاحب الروم قال فيه: “أما بعد فقد بَلغنِي خبر فلَان بن فلَان فوصف لَهُ صفته وَأَنا أقسم بِاللَّه لَئِن لم ترسله إِلَيّ لَأَبْعَثَن إِلَيْك من الْجنُود جُنُودا يكون أَولهَا عنْدك وَآخرهمْ عِنْدِي”. فاستجاب لك الروم لأمر عمر، وأرسل الأسير إليه.

 

إدارة عمر بن عبد العزيز للدولة الأموية

اختلفت إدارة عمر للدولة عن خلفاء بني أمية السابقين، وتميزت بعدة أمور كالتالي:

العدل

كان عمر يرى نفسه أجيرًا عند الأمة، وواجب عليه تنفيذ مطالب المسلمين حسب شروط البيعة. وقد كتب رسالة إلى الحسن البصري يسأله فيها عن خصال الإمام العادل. فكان مما كتب له: “الإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده.. الإمام العدل يا أمير المؤمنين وصيّ اليتامى وخازن المساكين.. والإمام العدل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويُسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم…”

رد المظالم

كان من سياسة عمر بن عبد العزيز رد المظالم لأصحابها، وقد بدأ بنفسه في ذلك. ولما نظر إلى ما يملكه من أرض أو متاع، وجد فص خاتم، فأخرجه وقال: “هذا مما كان الوليد بن عبد الملك أعطانيه مما جاءه من أرض المغرب”. ثم نزع سيفه من الفضة واستبدلها بحديد، وفي ذلك قال ابنه عبد العزيز بن عمر: “كان سيف أبي محلى بفضة فنزعها وحلاه حديدًا”.

ثم باع ما يزيد عن استخدامه من لباس وعطر، وباعها بـ 23 ألف دينار، ثم وزعها على المساكين، أو ردها لأصحابها. وكان له قطعة أرض في حلوان بمصر تركها له والده، أعادها لصاحبها المصري لأن والده عبد العزيز قد ظلمه. وكان الربيع بن خارجة يتيمًا يرعاه عبد العزيز بن مروان، فاشترى منه بيتًا، فقام عمر بإعادة هذا البيت له، لعلمه أنه لا يجوز اشتراء الولي ممن يلي أمره. وبالنسبة للمال الذي كان يأتيه من اليمن والبحرين، فرده إلى بيت المال، رغم حاجة أهل بيته له.

بعد أن بدأ عمر بنفسه، شرع في مطالبة أمراء بني أمية في رد المظالم إلى أصحابها. وكانوا قد أدخلوا الكثير من مظاهر السلطنة والأبهة التي لم تكون موجودة في عهد النبي ولا الخلفاء الراشدين. فأنفقوا ثروات على أفخر الثياب والعطور. وقد تفاجأ بما تركه له الخليفة السابق من عطور وثياب، والتي باتت من حقه بصفته الخليفة الجديد. لكنه أمر خادمه مزاحم، ببيعها وضمها لبيت مال المسلمين.

تجريد أمراء بني أمية من أملاكهم

بعد دفنه لسليمان بن عبد الملك، توجه إلى أمراء بني أمية وطلب منهم تسليم كل شيء أخذوه بغير حق. فبعدما فعلوا ذلك وجدوا أنفسهم بلا شيء، ولم يبقى في أيديهم سوى حقهم المشروع وهو شيء قليل.

حاول أمراء بني أمية تغيير قرار عمر، فلما عجزوا لجأوا إلى عمته فاطمة بنت مروان. ولما ذهبت إليه أكرمها، وقالت له “إن قرابتك يشكونك ويذكرونك أنك أخذت منهم خير غيرك”. قال: “ما منعتهم حقاً أو شيئاً كان لهم، ولا أخذت منهم حقاً أو شيئاً كان لهم”. فقالت: “إني رأيتهم يتكلمون، وإني أخاف أن يهيجوا عليك يومًا عصيبًا”، فقال: “كل يوم أخافه دون يوم القيامة فلا وقاني الله شره”.

كما ذكرها عمر بعهد النبي وأنه ترك للمسلمين نهرًا، فحافظ عليه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. أما أمراء بني أمية من أبناء يزيد ومروان وعبد الملك وأبناءه الوليد وسليمان، فقد شربوا النهر حتى جف. فذهبت إليهم فاطمة وأخبرتهم بكلامه، وفي رواية أنها قالت لهم: “أنتم فعلتم هذا بأنفسكم، تزوجتم بأولاد عمر بن الخطاب فجاء يشبه جده، فسكتوا”.

وفي يوم جاءه رجال من المسلمين يشتكون روح بن الوليد بن عبد الملك في حوانيت. فأمر عمر برد الحوانيت، وطلب من حارسه أن يتتبع روح، فإن لم يردها فليضرب عنقه، فرد إليهم حوانيتهم.

وكان الوليد بن عبد الملك قد أخذ أرضًا من أعراب قد أحيوها، ثم وهبها لأهله. فرد عمر الأرض للأعراب وقال: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من أحيا أرضاً ميتة فهي له”.

وهناك واقعة أخرى تبين عزم عمر بن عبد العزيز على رد جميع المظالم. ذات يوم أرسل إليه والي البصرة رجلًا قد اغتصبت منه أرضه، فردها له. وقال عمر للرجل “كم أنفقت في مجيئك إلي؟”، فقال الرجل: “يا أمير المؤمنين، تسألني عن نفقتي وأنت قد رددت علي أرضي وهي خير من مائة ألف؟”، فقال عمر: “إنما رددت عليك حقك”. ثم أمر له بـ60 درهمًا تعويضًا عن ما أنفقه خلال سفره.

عزل الولاة الظالمين

أول ما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة الأموية، عزل جميع الولاة الظالمين من مناصبهم. وكان على رأس المعزولين صاحب حرس الخليفة السابق سليمان بن عبد الملك، وكان يدعى خالد بن الريان. وكان خالد هذا يضرب عنق كل من يأمر سليمان بضرب عنقه. عزله ووضع مكانه عمرو بن مهاجر الأنصاري، وهو رجل كثير تلاوة القرآن والصلاة.

وكان عمر يختبر الأشخاص قبل إعطائهم المناصب، ليتأكد من صلاحهم وصدقهم. فكان هناك شخص قد توسم فيه الصلاح بسبب كثرة صلاته، فأراد أن يوليه. لكن قبل إعطائه المنصب أرسل إليه رجلًا مقربًا منه، فقال له “يا فلان، إنك تعلم مقامي عند أمير المؤمنين، فمالي لو جعلته يوليك على أحد البلدان؟”، فقال الرجل: “لك عطاء سنة”. فلما أخبر الرجل عمر بأمره، تركه ولم يعطه منصبًا.

وكان أسامة بن زيد التنوخي على رأس الولاة الظالمين الذين عزلهم. وكان على رأس خراج مصر، لكنه كان ظالمًا ينفذ العقوبات دون تحري، فكان يقطع أيدي الناس دون توافر شروط حد السرقة. فأمر عمر بن عبد العزيز بحبسه في كل جند سنة وتقييده، ولم يكن يحل عنه القيد إلا عند الصلاة. فحبس سنة بمصر، وسنة بفلسطين، لكن بعد وفاة عمر بن عبد العزيز، أعاده يزيد بن عبد الملك لعمله في مصر.

العمل بالشورى

منذ أول يوم من خلافة عمر بن عبد العزيز اهتم بمبدأ العمل بالشورى. فخلال خطبة توليه عرش بني أمية، سأل الناس فبايعوه جميعًا. ثم أرسل للأمصار الإسلامية، فبايعوه جميعًا. وبذلك يكون خرج عن مبدأ التوريث الذي تبناه خلفاء بني أمية السابقين، وعمل بالشورى والانتخاب مثل الخلفاء الراشدين.

وظل عمر يعمل بمبدأ الشورى خلال فترة خلافته، فكان يطلب مشورة العلماء ونصحهم، مثل رجاء بن حيوة، وسالم بن عبد الله، وغيرهم. كما قرب إلى مجلسه العلماء والصالحين، وأبعد أصحاب المصالح الدنيوية. وكان يقول لقائد حرسه: “إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يدك في تلبابي ثم هزني، ثم قل: يا عمر ما تصنع؟”.

نشر العلم

حرص عمر بن عبد العزيز على نشر الوعي والعلم بين رعيته في مختلف الأقطار الإسلامية. فأرسل العلماء والفقهاء لمختلف البلدان، وأوصى الولاة بحثهم على نشر العلم. كما أجرى الرواتب على أهل العلم، كي يتفرغوا لنشره بين المسلمين.

واهتم بإرسال العلماء إلى البدو بشكل خاص، فأرسل عمر بن أبي مالك الدمشقي إلى بني نمير، ليفقههم. وأرسل إلى أهل مصر نافع مولى ابن عمر، ليعلمهم السنن. كما أرسل عشرة علماء إلى أفريقية ليعلمون أهلها أمور الدين.

 تدوين الأحاديث النبوية الشريفة

كان عبد العزيز بن مروان (والد عمر)، أول من قام بتدوين الحديث بشكل رسمي، وذلك عندما كان أميرًا على مصر. لكن التدوين الحقيقي كان على يد عمر بن عبد العزيز، حيث أصدر أوامر إلى مجموعة من العلماء. وبدأ هؤلاء العلماء بجمع أحاديث وسنن النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

وكان سبب قيام عمر بذلك، هو قيام التابعين بتدوين الأحاديث، فخاف أن تدس أحاديث مكذوبة وسط الأحاديث الصحيحة، بسبب الخلافات المذهبية والسياسية. ويوضح الإمام الزهري هذا الوضع في قوله: “لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق ننكرها لا نعرفها، ما كتبت حديثًا ولا أذنت في كتابه”.

وكان خوف العلماء من اختلاط المكذوب بالصحيح، سببًا في قبولهم أوامر عمر. وقد كتب عمر إلى أبي بكر بن حزم، وهو أمير المدينة وأعلم أهل عصره بالقضاء، يأمر بذلك. وكتب أيضًا إلى الإمام الزهري، وجميع أهل المدينة المنورة وكل الأمصار، فقال لهم: “أن انظروا حديث رسول الله فاكتبوه، فإني قد خفت دروس العلم وذهاب أهله”. وبذلك يكون تدوين الحديث خلال خلافة عمر بن عبد العزيز، من أفضل وأهم أعماله.

 

 

 

 

المصادر:

ابن سعد: الطبقات الكبرى.

ابن كثير: البداية والنهاية.

الذهبي: سير أعلام النبلاء.

ابن عساكر: تاريخ دمشق.

الطبري: تاريخ الأمم والملوك.

ابن الحكم: سيرة عمر بن عبد العزيز.

ابن الجوزي: سيرة عمر بن عبد العزيز.

البلاذري: أنساب الأشراف.

البلاذري: فتوح البلدان.

ابن الأثير: الكامل في التاريخ.

 

 

الوسوم :

التعليقات

لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات مشابهة

عرض جميع المقالات