يُعتبر عبد الرحمن الأوسط أو عبد الرحمن الثاني من أكثر حكام الأندلس تأثيرًا في تاريخها الإسلامي. تولى الحكم في فترة حرجة بعد عهد أبيه الحكم بن هشام الذي اشتهر بقسوته، فاستطاع بذكائه وحنكته أن يعيد الاستقرار إلى البلاد ويؤسس لعصر ازدهار حضاري. امتد حكمه أكثر من ثلاثة عقود، تميزت بتطور كبير في المجالات السياسية والعسكرية والعمرانية. وكان عصره بمثابة الجسر الذي نقل الأندلس من مرحلة التأسيس إلى مرحلة النضج والازدهار.

 

نسبه ونشأته

ينتمي عبد الرحمن الأوسط إلى السلالة الأموية العريقة، فهو حفيد عبد الرحمن الداخل مؤسس الدولة الأموية في الأندلس. أبوه هو أمير الأندلس الحكم بن هشام، وأمه جارية تدعى حلاوة، وهو ما لم يمنعه من الارتقاء إلى سدة الحكم بسبب كفاءته. كان يلقب بعبد الرحمن الأوسط أو عبد الرحمن الثاني، وكان يكنى أبا المطرف.

أنجب 40 ولدًا، و43 فتاة، كان أبرزهم ابنه محمد الذي خلفه في الحكم، والمنذر الذي أصبح قائدًا عسكريًا بارزًا.

وُلد عبد الرحمن الأوسط في قرطبة عام 176هـ، ونشأ في قصر الإمارة تحت رعاية أبيه الحكم بن هشام الذي أولى اهتمامًا كبيرًا لتربيته. تلقى تعليمًا مميزًا جمع بين العلوم الدينية والفنون القتالية، حيث درس القرآن والفقه على يد أشهر علماء قرطبة. وتدرب على الفروسية وفنون القتال مع أفضل القادة العسكريين. وتميز منذ صغره بذاكرة قوية وذكاء حاد، مما جعله المفضل لدى أبيه بين إخوته.

 

صفاته الشخصية

تميز عبد الرحمن الأوسط بذكاء سياسي حاد، حيث جمع بين الحزم والمرونة في إدارة الدولة. كان قادرًا على قراءة التحولات السياسية بدقة، مما مكنه من اتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب. أظهر مهارة في التعامل مع مختلف الفئات الاجتماعية، من العلماء إلى القادة العسكريين.

عُرف عنه حبه للأدب والشعر، وكان يجيد نظم القصائد. وعلى عكس أبيه، كان أكثر انفتاحًا وتقبلاً للنقد، لكنه في الوقت نفسه كان حريصًا على هيبة الدولة وسلطانها. عُرف بتقواه وورعه، حيث كان يحرص على إقامة الصلاة وإظهار التزامه الديني.

 

توليه الحكم

عندما توفي الحكم بن هشام عام 206هـ، ورث عبد الرحمن الأوسط دولة تعاني من آثار سياسات أبيه القمعية. كانت الأندلس تعيش حالة من التململ الشعبي بسبب أحداث ثورة الربض الدامية. كما كانت بعض القبائل على تخوم الدولة تتربص بها. وفي الشمال، كانت الممالك المسيحية تشكل تهديدًا مستمرًا خاصة بعد سقوط برشلونة في عهد أبيه. بينما في الداخل، كان هناك استياء من سيطرة الموالي والصقالبة على مراكز القوة.

اتبع عبد الرحمن الأوسط سياسة مغايرة لأبيه منذ اللحظة الأولى لتوليه الحكم. فبدأ بحملة مصالحة مع العلماء والفقهاء الذين تضرروا في عهد أبيه، وأطلق سراح بعض المعتقلين السياسيين.

في الوقت نفسه، عمل على تعزيز الجيش وتطوير نظام الإدارة، مع الحفاظ على سياسة أبيه في الاعتماد على الموالي والصقالبة كقوة موالية له. كما نجح في كسب تأييد العديد من القبائل المتمردة عبر سياسة الجمع بين الترغيب والترهيب.

 

التمردات الداخلية في عهده

واجه عبد الرحمن الأوسط عدة ثورات داخلية، كان أبرزها تمرد طليطلة الذي استمر لسنوات. اتبعت المدينة سياسة المماطلة والتمرد المستمر، فحاصرها الأمير حصارًا طويلاً حتى استسلمت.

وكانت ثورة الذميين في قرطبة أول ثورة تقع بعد توليه الحكم، وكان ذلك عام 207 هـ. وهؤلاء خرجوا بسبب تعرضهم للظلم منذ عهد هشام بن الحكم. فأرسل إليهم جيشًا واستطاع تفريقهم والسيطرة على تمردهم. وفي نفس العام، تقاتل قبائل المضرية واليمانية في تدمير، وظلوا يتقاتلون 7 سنوات.

استطاع عبد الرحمن الثاني السيطرة على هذه الثورات وغيرها. وعلى عكس أبيه، اختار سياسة العفو بعد الانتصار، مما ساعده في كسب ولاء الكثير من الثوار.

 

حرب عبد الرحمن الأوسط مع الفايكنج

في صيف عام 230هـ، شهدت الأندلس واحدة من أخطر الغزوات البحرية في تاريخها المبكر، عندما ظهرت أساطيل الفايكنج (النورمان) قبالة سواحل إشبيلية. كان عبد الرحمن الأوسط في ذروة قوته العسكرية حينها، وقد أظهر موهبة قيادية فذة في مواجهة هذا الخطر الداهم.

وصلت أولى سفن الفايكنج إلى مصب نهر الوادي الكبير، حيث بدأت تنزل قواتها لنهب القرى المجاورة. وقام الفايكنج بنهب البلد وتدميرها، وعاثوا فسادًا، ففزع الناس وعاشوا في رعب. وكانت هذه أول مواجهة كبرى بين المسلمين والنورمان في شبه الجزيرة الأيبيرية.

تصف المصادر التاريخية كيف قام عبد الرحمن الأوسط بحشد جيش ضخم من مختلف أنحاء الأندلس لمواجهة هذا التهديد غير المسبوق. وأرسل قواته البحرية لاعتراض سفن الفايكنج، بينما حشد الجيش البري لملاحقتهم في البر.

بعد معارك ضارية استمرت عدة أيام، تمكن المسلمون من إلحاق هزيمة ساحقة بالغزاة، حيث قُتل المئات منهم وأُسر عدد كبير. وتظهر وثائق ابن حيان القرطبي كيف أمر عبد الرحمن الأوسط بإعدام بعض الأسرى وإرسال آخرين كرسالة ترهيب إلى ملوك الشمال.

كما عقد تحالفات مع بعض الممالك المسيحية في الشمال لمراقبة تحركات الفايكنج. هذه الإجراءات جعلت الأندلس قادرة على مواجهة أي تهديدات بحرية مستقبلية.

 

أهم أعماله

اهتم عبد الرحمن الأوسط بالعمران اهتمامًا كبيرًا، فبنى المساجد والقصور. وأنشأ العديد من القناطر والطرق التي سهلت حركة التجارة والاتصال بين مختلف أنحاء الأندلس.

وبعد هجوم الفايكنج أدرك عبد الرحمن الأوسط ضرورة تطوير الأسطول، فأنشأ دارًا لصناعة السفن في إشبيلية، ووضع نظامًا للإنذار المبكر على السواحل. وأحاط إشبيلية بسور ضخم زاد من تحصينها ضد أي هجوم.

وشهد عهده ازدهارًا ثقافيًا كبيرًا، حيث استقدم العلماء من المشرق والمغرب وأسس مكتبة قرطبة العظيمة. وشجع حركة الترجمة ونقل العلوم من اللغات الأخرى إلى العربية. وكان البلاط الأموي في عهده ملتقى للشعراء والأدباء، حيث برزت أسماء مثل يحيى الغزال الذي أصبح شاعر البلاط الرسمي.

كما ازدهرت الحالة الاقتصادية في بلاد الأندلس خلال عهده، فوصل الخراج إلى ألف ألف دينار. كما وطد علاقته بالإمبراطور البيزنطي في القسطنطينية، وتبادلا الهدايا والرسل.

 

عبد الرحمن الأوسط وجاريته طروب

تذكر المصادر التاريخية الموثوقة -خاصةً ابن حيان القرطبي في المقتبس وابن عذاري المراكشي في البيان المغرب- أن طروب كانت جارية لعبد الرحمن الأوسط، وأمًّا لابنه المُنذر، الذي أصبح قائدًا عسكريًا بارزًا. ومع ذلك، لا تقدم هذه المصادر تفاصيلًا عن طبيعة علاقتهما الشخصية، بل تذكرها في سياق النساء المؤثرات في البلاط الأموي.

أما المقري التلمساني في نفح الطيب، فيشير إلى أن طروب كانت تتمتع بحظوة خاصة لدى الأمير. لكنه لا يصف العلاقة بأنها قصة حب رومانسية، بل يربط مكانتها بولادة ابنها المُنذر، الذي كان من أهم قادة الجيش في عهد والده.

 

وفاة عبد الرحمن الأوسط

توفي عبد الرحمن الأوسط عام 238هـ، بعد حكم دام 32 عامًا. وكانت وفاته نهاية لعصر مهم في تاريخ الأندلس، حيث ترك دولة مستقرة وقوية لابنه محمد. دُفن في قرطبة، وأقيمت له جنازة مهيبة شارك فيها آلاف الناس.

 

 

اقرأ أيضًا: خالد بن الوليد.. سيف الله المسلول

 

المصادر:

ابن عذاري المراكشي: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب.

ابن حيان القرطبي: المقتبس من أنباء أهل الأندلس.

المقري التلمساني: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب.

الحميدي: جذوة المقتبس في تاريخ علماء الأندلس.

ابن الأثير: الكامل في التاريخ.

أحمد بن محمد المكناسي: الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية.

ليفي بروفنسال: تاريخ إسبانيا الإسلامية.

 

الوسوم :

التعليقات

لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات مشابهة

عرض جميع المقالات