يُعد الإمام أبو حنيفة النعمان (80-150هـ/699-767م) أحد أعلام الفقه الإسلامي وأئمة المذاهب الأربعة المعتمدة. أسس المذهب الحنفي الذي انتشر شرقًا وغربًا، وأصبح المذهب الرسمي للخلافة العباسية والدول الإسلامية اللاحقة. تميز أبو حنيفة بعقلية فقهية فذة جمعت بين النص والرأي، مما جعله أحد أكثر الشخصيات تأثيرًا في التاريخ الإسلامي.

 

نسب أبي حنيفة النعمان

يُعد الإمام أبو حنيفة النعمان من أكثر الأئمة الذين اختلف المؤرخون في نسبهم، حيث تعددت الروايات وتنوعت الآراء حول أصوله العرقية وأسرته. تذكر المصادر التاريخية أن اسمه الكامل هو النعمان بن ثابت بن زوطى بن ماه، لكن الاختلاف يكمن في أصول هذه الأسماء وجذورها العرقية.

تشير أغلب المصادر التاريخية أنه ينتمي إلى أسرة من موالي بني تيم الله بن ثعلبة، وهي قبيلة عربية. وهناك من نسبه إلى قبيلة حنيفة في اليمامة، لكنها الرواية الأقل انتشارصا.

وقد ورد في بعض الروايات أن جده زوطى كان من أهل كابل في أفغانستان، وأنه أسلم على يد الصحابي الجليل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، مما يدل على أن أسرة أبي حنيفة كانت من العجم الذين دخلوا في الإسلام مبكرًا.

أما بالنسبة لوالده ثابت، فقد اتفقت المصادر على أنه كان تاجرًا معروفًا في الكوفة، وأنه عاش في زمن الصحابة وربما أدرك بعضهم. ويذكر الذهبي في “سير أعلام النبلاء” أن ثابتًا كان رجلًا صالحًا. وقد روي عنه أنه التقى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ودعا له ولذريته، مما قد يفسر البركة التي حظي بها ابنه النعمان في علمه وفقهه.

 

نشأته وتعليمه

ولد الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت سنة 80 للهجرة (699م) في الكوفة، تلك المدينة التي كانت منارة للعلم والمعرفة في ذلك العصر. نشأ في بيئة تجارية مستقرة، حيث كان والده ثابت بن زوطا تاجرًا معروفًا للأقمشة. مما وفر له حياة كريمة مكنته من التفرغ للعلم فيما بعد. ويذكر الخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد” أن أبا حنيفة بدأ حياته العملية في تجارة الحرير. مما أكسبه خبرة عملية في المعاملات التجارية التي أثرت فيما بعد في آرائه الفقهية.

وتلقى أبو حنيفة تعليمه الأولي في الكوفة، حيث حفظ القرآن الكريم في صغره، ثم اتجه لدراسة علوم اللغة العربية والشعر. وقد ظهرت علامات النبوغ الفكري عليه منذ سن مبكرة، مما جعله محط أنظار العلماء في زمانه. ويروي الذهبي في “سير أعلام النبلاء” أن أبا حنيفة كان يتمتع بذاكرة قوية وفهم ثاقب، مما مكنه من استيعاب العلوم المختلفة بسرعة مذهلة.

 

تعليم أبي حنيفة وشيوخه

كانت نقطة التحول في حياة أبي حنيفة عندما التقى بالإمام الشعبي، أحد كبار العلماء في ذلك الوقت، الذي نصحه بالتوجه لطلب العلم. يقول ابن خلكان في “وفيات الأعيان” أن الشعبي رأى في أبي حنيفة علامات النبوغ فقال له: “إني أرى فيك يقظة وذكاء، فلا تشتغل إلا بالعلم، فإنه ينبغي لك فيه ما لا ينبغي لغيره”. فكانت هذه الكلمات بمثابة الشرارة التي غيرت مسار حياته.

وتتلمذ الإمام أبو حنيفة على يد عدد من كبار العلماء، يأتي في مقدمتهم الإمام حماد بن أبي سليمان الذي لازمه ثماني عشرة سنة كاملة. يذكر الموفق المكي في “مناقب أبي حنيفة” أن أبا حنيفة كان يختلف إلى حلقة حماد بن أبي سليمان حتى أصبح أعلم تلاميذه، ثم خلفه في حلقته العلمية بعد وفاته. وقد تأثر أبو حنيفة بشدة بمنهج حماد في الفقه والاستنباط، الذي كان يعتمد على الأصول الفقهية المعتمدة عند أهل الرأي.

ومن أبرز شيوخ أبي حنيفة أيضًا، عطاء بن أبي رباح، الذي أخذ عنه أثناء رحلته إلى مكة للحج. وقد ورد في “طبقات الحنفية” للقرشي أن أبا حنيفة كان يقول: “ما رأيت فيمن لقيت أفقه من عطاء بن أبي رباح”. كما تتلمذ على يد إبراهيم النخعي، وعامر الشعبي، وابن شهاب الزهري، وغيرهم من أعلام التابعين.

لم يقتصر تعليم أبي حنيفة على العلوم الشرعية فحسب، بل كان موسوعيًا في معارفه. فقد درس علم الكلام على يد الإمام جعفر الصادق، كما أتقن علوم اللغة العربية والمنطق. وقد ذُكِر أنه كان يحضر مجالس المناظرات العلمية التي كانت تعقد في مساجد الكوفة، حيث برع في الجدل والمناظرة.

وتميزت تربية أبي حنيفة العلمية بالشمولية والتكامل. حيث جمع بين علوم النقل والعقل، وبين الفقه واللغة، وبين النظرية والتطبيق. وقد ظهر أثر هذه التربية المتكاملة في منهجه الفقهي الذي جمع بين النص والرأي، وبين الأصول والفروع.

 

فقه أبي حنيفة النعمان وأصول مذهبه

يُعد الإمام أبو حنيفة النعمان مؤسس المذهب الحنفي، أحد أهم المذاهب الفقهية في الإسلام. تميز فقهه بخصائص فريدة جعلته أكثر المذاهب انتشارًا في العالم الإسلامي. حيث اعتمد في استنباط الأحكام الفقهية على أصول منهجية واضحة، ذكرها تلاميذه في كتب الأصول.

مصادر الاستنباط عند أبي حنيفة

اعتمد الإمام أبو حنيفة في فقهه على سبعة أصول رئيسية، كما ذكرها تلميذه أبو يوسف في كتاب “الخراج”.

القرآن الكريم: كان المصدر الأول والأساسي للاستنباط، حيث يقدم النص القرآني على كل شيء عند التعارض.

السنة النبوية: مع اشتراطه شروطًا دقيقة في قبول الحديث، حيث كان يتحرى الصحة ويتشدد في قبول الأحاديث الضعيفة، خاصة في مجال العقائد والأحكام.

إجماع الصحابة: كان يعتبر إجماع الصحابة حجة ملزمة، بينما لا يعتبر إجماع من بعدهم حجة قاطعة.

القياس: وهو من أهم الأصول التي اشتهر بها المذهب الحنفي، حيث كان يعتمد على القياس عند عدم وجود نص صريح، مع مراعاة علل الأحكام.

الاستحسان: وهو ترك القياس الجلي إلى ما هو أرجح دليلاً، وقد عرفه أبو حنيفة بأنه “كل ما يراه المجتهد حسنًا”.

العرف والعادة: كان يعتبر العرف السائد مصدرًا من مصادر التشريع في المعاملات، ما لم يخالف نصًا شرعيًا.

شرع من قبلنا: كان يرى حجية شرع الأنبياء السابقين إذا ورد به نص قرآني أو نبوي.

منهج أبي حنيفة في التعليم الفقهي

اتبع الإمام أبو حنيفة منهجًا خاصًا في تدريس الفقه، كما يصفه القرشي في “الجواهر المضيئة”:

المناظرات العلمية: كان يعقد جلسات للمناظرة بين تلاميذه لتدريبهم على الاستنباط.

الفرضيات الفقهية: كان يطرح المسائل الفقهية الافتراضية لتنمية قدرات تلاميذه الاجتهادية.

التدريب على الاستدلال: كان يعلم تلاميذه كيفية استخراج الأحكام من مصادرها الأصلية.

 

تأثير المذهب الحنفي

انتشر المذهب الحنفي انتشارًا واسعًا، كما يذكر ابن خلدون في “المقدمة”، بسبب:

اعتماده الدولة العباسية: حيث تولى تلاميذه مناصب القضاء.

مرونته ومواكبته للحياة: مما جعله صالحًا للتطبيق في مختلف البيئات.

تنظيمه الدقيق: حيث دون تلاميذه أصوله وفروعه بدقة.

 

محنة أبي حنيفة في عصر الدولة الأموية

تشير المصادر التاريخية إلى أن أبا حنيفة تعرض لاضطهاد سياسي في العصر الأموي بسبب مواقفه من الحكم الأموي. حيث رفض التعاون مع والي الكوفة يزيد بن عمر بن هبيرة الذي حاول استمالته ليكون قاضيًا أو عاملًا له، مما أثار غضب السلطة الأموية عليه.

وعندما اشتدت الضغوط على أبي حنيفة في الكوفة، قرر الهرب إلى مكة سنة 130هـ. وقد مكث في مكة حوالي خمس إلى سبع سنوات، تتلمذ خلالها على يد علمائها، وعلى رأسهم عطاء بن أبي رباح. يذكر الموفق المكي في “مناقب أبي حنيفة” أن هذه الفترة كانت من أخصب فترات حياته العلمية، حيث تفرغ للتدريس والتأليف بعيدًا عن الصراعات السياسية.

 

علاقة أبي حنيفة بالدولة العباسية

عاد أبو حنيفة إلى الكوفة بعد سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية، وكان في الخمسين من عمره. وقد رحب بالدولة الجديدة آملاً في إقامة العدل، حيث رأى فيهم البديل الشرعي للحكم الأموي الذي عانى منه العلماء. وقد ورد أن أبا حنيفة كان معروفًا بالتعاطف مع آل البيت، مما جعله مقربًا في البداية من الدعوة العباسية.

لكن سرعان ما تغيرت العلاقة بين أبي حنيفة والعباسيين، ويعزو المؤرخون ذلك لعدة أسباب:

رفضه تولي القضاء: عندما عرض عليه الخليفة أبو جعفر المنصور منصب قاضي القضاة، رفض بشدة. وكان رفضه مستندًا إلى خشيته من أن يحكم بغير الحق تحت ضغط السلطة..

موقفه من سياسات المنصور: كان أبو حنيفة ينتقد بعض تصرفات المنصور، خاصة ما يتعلق بالظلم وفرض الضرائب.

دعمه لثورة النفس الزكية: كان أبو حنيفة النعمان من أنصار محمد النفس الزكية، وقد جاهر بذلك، مما زاد من حنق الخليفة عليه.

 

سجنه ووفاته

أمر المنصور بسجن أبي حنيفة وتعذيبه. وقد ذكر الموفق المكي في “مناقب أبي حنيفة” تفاصيل المؤامرة التي حيكت ضده، حيث اتهمه بعض الحاقدين بالخروج على الخليفة. وفي السجن، تعرض أبو حنيفة للضرب والتعذيب، لكنه ظل ثابتًا على موقفه.

وتوفي الإمام أبو حنيفة في سجن بغداد سنة 150هـ، كما يجمع المؤرخون. ويروي القرشي في “الجواهر المضيئة” أن هناك روايات تشير إلى أنه مات مسمومًا بأمر من المنصور. وقد صلى عليه خمسون ألف شخص، وفقًا لتقدير المؤرخين، مما يدل على مكانته في قلوب الناس.

 

 

اقرأ أيضًا: أبو ذر الغفاري رضي الله عنه

 

 

المصادر:

ابن كثير: البداية والنهاية.

ابن الأثير: الكامل في التاريخ.

الذهبي: سير أعلام النبلاء.

الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد.

ابن خلكان: وفيات الأعيان.

الموفق المكي: مناقب أبي حنيفة.

القرشي: الجواهر المضيئة.

 

الوسوم :

التعليقات

لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات مشابهة

عرض جميع المقالات