قصة التحكيم بين علي ومعاوية رضي الله عنهما بعد معركة صفين من القصص الإسلامية المثيرة للجدل إلى يومنا هذا. فقد امتلأت كتب التاريخ بالأخبار المكذوبة والشبهات، وتعرض الصحابة الكرام لاتهامات باطلة. وتعود معظم الأكاذيب إلى أبي مخنف لوط بن أبي يحيى، الذي نقل عنه الطبري 95 رواية عن صفين كلها كاذبة، فلا يؤخذ عنه ووصفه المؤرخون والعلماء بأنه كاذب.
والحقيقة أن المذهب الشيعي لعب دورًا في بث الكثير من المعلومات التي لا تعتمد على مصدر موثوق، وتبث الفرقة وتنال من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم. لقد كان الخلاف في الرأي وليس الدين، وكل طرف اعتقد أن رأيه الأصح، ولذلك من أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد.
يوم صفين
استمرت معركة صفين لأيام، وسقط خلالها 70 ألف شهيد من جيش علي بن أبي طالب وجيش معاوية بن أبي سفيان. وفي اليوم التاسع نظر عقلاء الصحابة حولهم فرأوا كم الدم المسفوك وخشوا على الأمة من الهلاك. لذلك بدأت تعلوا أصوات تنادي بالتعقل والتوقف عن القتال حتى لا يستغل الفرس والروم الوضع فيهجموا على أهل العراق والشام، فتهلك النساء والذراري ولا يبقى شيء.
وكان الأشعث بن قيس الكندي ممن نادوا في أهل الكوفة بالتعقل ووقف القتال خوفًا على ضياع المسلمين، فكان يخطب فيهم بكلام مؤثر. وفي نفس الوقت توصل عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى فكرة رفع المصاحف على أسنة الرماح. وكان هدفه حقنًا لدماء المسلمين ووقف القتال، وليس طمعًا في جاه أو سلطة، فقد كان رجلًا مسنًا تخطي الثمانين من عمره بكثير.
ولما وصل كلام الأشعث إلى معاوية رضي الله عنه، قال “أصاب ورب الكعبة. لئن نحن التقينا غدًا لتميلن الروم على ذرارينا ونسائنا، ولتميلنَّ أهل فارس على نساء أهل العراق وذراريهم. وإنما يبصر هذا ذوو الأحلام والنُّهى؛ اربطوا المصاحف على أطراف القَنَا”.
لقت الفكرة قبولًا لدى أهل الشام، فأخذوا ينادون على أهل العراق “يا أهل العراق من لذرارينا إن قتلتمونا، ومن لذراريكم إن قتلناكم؟”. وبدأ أهل الشام يحملون المصاحف على رؤوس الرماح، ثم نادوا “يا أهل العراق كتاب الله بيننا وبينكم”.
قال الأشعث بن قيس لعلي بن أبي طالب “أجب الناس إلى كتاب الله، فإنك أحق به منهم”. ولما تأخر علي في الرد، جزع أهل الشام ورغبوا في القتال من جديد. وهنا أرسل معاوية عبد الله بن عمرو إلى أهل العراق، فخطب فيهم وكان فقيهًا محبوبًا بين الناس. فتوقف الجميع عن القتال واتفقوا على تحكيم كتاب الله.
عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري
اتفق الفريقان على التحكيم واختار كل طرف من سيقوم بهذه المهمة. كان الصحابي الجليل عمرو بن العاص اختيار معاوية ليس فقط لذكائه ودهائه ولكن أيضًا لورعه وتقواه، فقد قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم “أسلم الناس، وأمن عمرو بن العاص”.
أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فاختار عبد الله بن عباس لكن رفضه القوم. ثم وقع اختيارهم على أبي موسى الأشعري وكان قاضي الكوفة ولم يشارك في القتال يوم صفين. كان أبو موسى صحابي تقي وشجاع قاد المسلمين في معركة تستر ضد الفرس، وتولى البصرة في خلافة عمر بن الخطاب، والكوفة في خلافة عثمان وعلي. وهذا يعني أنه كان شخص ذو عقل حكيم ورأي سديد، ولا يستطيع أحد التلاعب به كما أشيع.
الاتفاق على التحكيم
اتفق أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص يوم صفين على إيجاد حل لهذا الخلاف الكبير. لذلك كتبوا كتابًا بشكل مبدئي يتضمن أسس التحكيم. وبدأ أبو موسى يملي الكتَّاب، وعندما قال: اكتب “هذا ما قضى عليه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين”، اعترض عمرو على ذلك، وقال: “اكتب اسمه واسم أبيه، هو أميركم، وليس أميرنا”. وكان اعتراضه لأنه لم يبايع علي بالخلافة من الأساس وإلا لما خرج عليه وقاتله. اعترض الأحنف بن قيس وتمسك بكتابة ” أمير المؤمنين”. لكن علي رضي الله عنه وافق لرغبته في التوصل لحل وحقن دماء المسلمين.
أخذ الحكمان موافقة الجميع على بنود الوثيقة، وتم الاتفاق على أن تكون جلسة التحكيم في شهر رمضان من نفس العام. أي بعد صفين تقريبًا بـ 6 شهور، حتى تهدأ النفوس. وبعد انتهاء الاجتماع قاموا بدفن الشهداء، وتبادلوا الأسرى وعاد علي إلى الكوفة ومعاوية إلى الشام.
اعتراض طائفة من جيش علي
كان الأشعث بن قيس من قرأ الكتاب على جيش علي، فخرج له رجل يدعى عروة بن جرير من بني تميم، وقال له “أتحكمون الرجال في دين الله؟”. ثم ظهرت طائفة تتبع ما قاله ورأت أنه ليس من الصواب أن يتم التحكيم بين أمير المؤمنين ومعاوية الذي يجب قتاله لخروجه على الخليفة. وكانت هذه الطائفة من القراء والحفاظ ، الذين يقيمون الليل ويكثرون من النوافل، ووصل عددهم إلى 12 ألف رجل. وكان أكثر رجال الطائفة من قرية يقال لها “حروراء”. ثم عُرِفوا بعد ذلك بالخوارج لخروجهم عن طاعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. وقد تنبأ النبي صلى الله عليه وسلم، بظهور هذه الطائفة، حيث قال “تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ”.
ذهب على بن أبي طالب إليهم، ليحاورهم ويعيدهم إلى الصواب. لكنهم رأوا أنه أخطأ عندما أوقف قتال معاوية، وعندما رضى بتحكيم الرجال في أمر الله، وعندما تنازل عن لقب أمير المؤمنين خلال كتابة الوثيقة. ودارت بينه وبينهم محاورة، استشهد خلالها علي بكتاب الله ومواقف رسول الله يوم صلح الحديبية، لكنهم لم يتراجعوا عن موقفهم.
حاول علي معهم مرة ثانية، فأرسل إليهم عبد الله بن عباس وظل يحاورهم ثلاثة أيام، حتى اقتنع منهم 4 آلاف رجل وتابوا. أما البقية فظلوا على موقفهم، ووصل بهم الأمر إلى سب علي وتكفيره. ثم خرجوا من الكوفة وتجمعوا في النهروان التي قاتلهم فيها لاحقًا.
يوم التحكيم
في شهر رمضان سنة 37 من الهجرة، أرسل علي 400 فارس على رأسهم أبي موسى الأشعري إلى دومة الجندل بين الكوفة والشام. وأرسل معاوية 400 فارس على رأسهم عمرو بن العاص. اجتمع الحكمان وكان يحضر التحكيم عدد من الصحابة مثل عبد الله بن عمر، عبد الله بن الزبير، عبد الله بن عباس، الأحنف بن قيس، المغيرة بن شعبة، وغيرهم.
أصر أبي موسى الأشعري على مبايعة معاوية لعلي بن أبي طالب بالخلافة وبعد أن تهدأ الأوضاع سيتم القصاص من قتلة عثمان. بينما أصر عمرو بن العاص على تنفيذ القصاص أولًا، ثم مبايعة معاوية لعلي بالخلافة. وعندما لم يصلا إلى حل، اتفقا على ترك أمر الخلافة إلى كبار الصحابة الذين مات رسول الله وهو عنهم راضٍ، ومنهم علي بن أبي طالب، ولم يكن عمرو أو معاوية من بينهم.
ثم اتفقا أن يكون الاجتماع في العام المقبل في دومة الجندل، وحتى هذا الوقت يحكم علي ومعاوية ما تحت يدهم. وعندما يتم اختيار خليفة يبايعه الجميع مهما كان رأيه في تعجيل أو تأخير القصاص من قتلة عثمان.
الروايات الشيعية حول التحكيم بين علي ومعاوية
من المؤسف أننا كبرنا على سماع روايات خاطئة عن قصة التحكيم، حتى ظنها البعض أنها الحقيقية. ومن هذه الأكاذيب ما قيل حول خديعة عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري. وأنهما اتفقا على خلع علي ومعاوية عندما يخرجا أما الناس. لكن لما قال أبو موسى “إني خلعت علي ومعاوية”، قال عمرو بعده “وأنا أخلع علي وأثبت معاوية”.
ببساطة كيف يخلعا معاوية وهو ليس خليفة!
وكيف قام عمرو بن العاص بالخديعة وكان يحضر التحكيم مجموعة من الصحابة حضروا الاتفاق!
وهناك الكثير من الروايات الأخرى المكذوبة مثل لعن سيدنا علي لمعاوية وعمرو في صلاته، ولعن معاوية لعلي. هذه أمور غير صحيحة ولا يقبلها عقل على الصحابة الكرام، الذين لم تشغلهم الدنيا عن الآخرة.
وقد قال ابن كثير أن هذه الروايات كلها مغلوطة، وترجع إلى أبو مخنف لوط بن يحي. وهو كاذب يضع الأحاديث ويفتري على الصحابة، بشهادة العلماء ولا يؤخذ عنه.
المصادر:
البلاذري: أنساب الأشراف.
المنقري: وقعة صفين ص481-484.
الطبري: تاريخ الرسل والملوك.
ابن كثير: البداية والنهاية.
موقع قصة الإسلام: التحكيم بين علي ومعاوية رضي الله عنهما
التعليقات
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!
اترك تعليق