يُعد الخليفة المتوكل على الله جعفر بن المعتصم (232-247هـ / 847-861م) من أبرز خلفاء الدولة العباسية، حيث شهد عهده تحولات سياسية وعسكرية ودينية كبيرة. تولى الحكم في فترة حرجة من تاريخ العباسيين، واتسم عهده بالصراع مع النفوذ التركي ومحاولة إعادة الهيبة للخلافة. في هذا المقال، سنستعرض تفاصيل حياته، سياساته، إنجازاته، والأحداث التي أدت إلى نهايته المأساوية.

 

نشأته

وُلد المتوكل على الله جعفر بن المعتصم سنة 205هـ / 820م في العاصمة العباسية سامراء، التي أسسها أبوه المعتصم لتكون مركزًا جديدًا للحكم. نشأ في كنف الأسرة الحاكمة، وشهد في صباه تزايد نفوذ القادة الأتراك في الجيش والبلاط العباسي، خاصة بعد اعتماد الخلفاء على العناصر التركية في الحماية والحكم.

تولى المتوكل الخلافة بعد أخيه الواثق بالله سنة 232هـ / 847م، في وقت كانت فيه السلطة الفعلية تتركز في أيدي القادة الأتراك مثل إيتاخ الخزري ووصيف التركي، مما جعل مهمته صعبة في فرض سيطرة الخلافة.

 

سياسة المتوكل على الله الداخلية

تقليص دور الأتراك

تميز عهد الخليفة العباسي المتوكل على الله بمحاولات جادة لاستعادة سلطة الخلافة المركزية وتقليص النفوذ المتزايد للقادة الأتراك في الدولة. وقد جاءت هذه السياسة في ظل ظروف بالغة التعقيد، حيث كان الأتراك قد أصبحوا القوة الفعلية المسيطرة على مقاليد الأمور منذ عهد المعتصم.

واجه المتوكل هذه المعضلة بحكمة وحزم، حيث بدأ بتطبيق استراتيجية متعددة الجوانب لمواجهة الهيمنة التركية. فقد عمل أولاً على إبعاد كبار القادة الأتراك عن مراكز القرار، حيث عزل إيتاخ الخزري الذي كان من أبرز الشخصيات التركية المؤثرة، وسجنه ثم دبر لقتله في نهاية المطاف. كما حاول نقل عاصمة الخلافة من سامراء إلى دمشق في محاولة للابتعاد عن المعقل الرئيسي للنفوذ التركي. لكن الضغوط الكبيرة أجبرته على العودة بعد فترة وجيزة.

غير أن هذه السياسة واجهت تحديات جسيمة، حيث قاوم القادة الأتراك محاولات تقليص نفوذهم بكل الوسائل. فقد شكلوا تحالفات سرية ضد إصلاحات المتوكل، وقاموا بعدة تمردات عسكرية، كان أبرزها تمرد بغا الصغير سنة 245هـ. كما أن المشاكل الاقتصادية الناتجة عن تركيز الخليفة على الصراع الداخلي أضعفت من قدرته على المضي قدمًا في إصلاحاته.

إصلاحاته الإدارية

في الجانب الإداري، اتخذ المتوكل إجراءات مهمة لإعادة هيكلة مؤسسات الدولة. فقد عين وزراء وولاة من خارج المحيط التركي، وأجرى تعديلات كبيرة في الدواوين الحكومية، وخاصة ديوان الخراج الذي كان يشكل عصب الحياة الاقتصادية للدولة. كما عمل على مراقبة الصرف المالي وتقليص الرواتب الضخمة التي كان يتقاضاها القادة الأتراك، والتي كانت تشكل عبئًا كبيرًا على خزينة الدولة.

 

مواجهة المتوكل على الله للمعتزلة وسياسته الدينية

شهد العصر العباسي تحولات فكرية كبرى، وكان للمتوكل على الله موقف حاسم في الصراع بين المذاهب الإسلامية. حيث مثل عهده نقطة تحول في سياسة الدولة تجاه المعتزلة بعد فترة من الهيمنة الفكرية خلال عهد المأمون والمعتصم والواثق.

اتخذ المتوكل سياسة مغايرة لسابقيه في التعامل مع القضايا الدينية. ففي عام 234هـ/848م أصدر قرارًا بإلغاء محنة خلق القرآن التي استمرت نحو خمسة عشر عامًا. هذا القرار أنهى حقبة من الاضطهاد الديني ضد العلماء الذين رفضوا القول بخلق القرآن، وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل.

لم تكن سياسة المتوكل مجرد رد فعل، بل جزء من استراتيجية أوسع لتعزيز المذهب السني التقليدي. حيث عمل على إحياء مكانة أهل الحديث ونشر المذهب الحنبلي، كما ذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء. وفي المقابل، قام بتقليص نفوذ المعتزلة في دوائر الدولة والتعليم، رغم أنه لم يصل إلى حد ملاحقتهم بشكل منهجي.

 

تضييقه على العلويين

شهد عهد الخليفة العباسي المتوكل على الله تصعيدًا واضحًا في سياسة القمع ضد العلويين. حيث اتخذ سلسلة من الإجراءات الصارمة للحد من نفوذهم السياسي والديني. وقد جاءت هذه السياسة في إطار محاولة الخليفة تعزيز سلطته المركزية وتفادي أي تهديد محتمل لشرعيته؟ خاصةً أن العلويين كانوا يمثلون مصدر قلق دائم للدولة العباسية بسبب مطالبهم بالخلافة.

بدأ المتوكل سياسة التضييق على العلويين بإجراءات مادية ومعنوية. ففي عام 236هـ/850م، أمر بهدم قبر الإمام الحسين في كربلاء، كما منع الزيارات إليه، وفقًا لما ذكره المؤرخ الطبري في “تاريخ الرسل والملوك”. ولم يقف الأمر عند ذلك، بل أمر بحرث الأرض المحيطة بالقبر وإغراقها بالماء لإزالة أي أثر له، مما أثار استياءً كبيرًا بين الشيعة. كما هُدمت دور كثيرة للعلويين في الكوفة وبغداد، وفرضت عليهم إقامة جبرية في بعض الأحيان.

لكن هذه السياسة القمعية لم تنجح في القضاء تمامًا على النشاط العلوي، بل أدت إلى تفاقم الكراهية بين الطرفين. فقد ذكر المسعودي في “مروج الذهب” أن العلويين اضطروا إلى ممارسة التقية بشكل أكبر. بينما استمرت الدعوة السرية لآل البيت في مناطق مثل الكوفة وخراسان.

 

السياسة الخارجية للخليفة العباسي المتوكل على الله

تميز عهد الخليفة العباسي المتوكل على الله بسياسة خارجية نشطة حاولت الحفاظ على هيبة الدولة العباسية في مواجهة التحديات الإقليمية. وقد واجه المتوكل تحديات متعددة على الحدود، لاسيما من الإمبراطورية البيزنطية في الشمال والحركات الانفصالية في الأطراف.

في الجبهة البيزنطية، واصل المتوكل سياسة الغزوات الصيفية التي كانت سمة العصر العباسي الأول. ففي عام 241هـ/855م، أرسل حملة عسكرية بقيادة علي بن يحيى الأرمني نجحت في تحقيق بعض الانتصارات. إلا أن هذه الحملات لم تحقق اختراقات كبيرة بسبب انشغال الدولة بالمشاكل الداخلية وتركيز الخليفة على تقليص نفوذ الأتراك.

 

وفي الجبهة الشرقية، واجه المتوكل تمردات متكررة في إقليم طبرستان بقيادة العلويين. حيث أرسل عدة حملات عسكرية لقمع هذه الحركات. كما اهتم بتأمين طريق الحجاج في نجد والحجاز من اعتداءات القبائل البدوية.

أما في مصر، فقد نجح المتوكل في إخماد تمرد للقبائل العربية عام 241هـ، مما عزز السيطرة العباسية على هذه الولاية المهمة. وفي المغرب، ظلت السلطة العباسية اسمية حيث كانت دولة الأغالبة تحكم بشكل شبه مستقل، رغم اعترافها بالسيادة العباسية.

 

مقتل الخليفة العباسي المتوكل على الله

في ليلة الخميس 3 شوال 247هـ، نُفِذت المؤامرة الدموية عندما اقتحم مجموعة من الجنود الأتراك بقيادة بغا الصغير قصر الخليفة في سامراء. وصف ابن الأثير المشهد بأن الجنود “وثبوا على المتوكل فضربوه بالسيوف حتى قتلوه”، بينما كان وزيره الفتح بن خاقان يحاول حمايته فقتل معه. وقد بلغت الجرأة بالقتلة أن تركوا جثة الخليفة ثلاثة أيام دون دفن، في إهانة صارخة لمكانة الخلافة.

أثارت جريمة الاغتيال هذه صدمة في العالم الإسلامي، حيث كانت المرة الأولى التي يقتل فيها خليفة بهذه الطريقة الوحشية. وقد علق الذهبي في سير أعلام النبلاء على الحدث بقوله: “كان مقتله فتحًا لباب الشر على الخلفاء”.

وترتب على مقتل المتوكل نتائج خطيرة، أهمها سيطرة الأتراك الكاملة على الخلافة، حيث أصبح الخلفاء اللاحقون مجرد دمى في أيديهم. كما أدى ذلك إلى تفاقم الفوضى السياسية وبداية ما عرف بـ”عصر الفتنة” أو “العصر العباسي الثاني” الذي تميز بضعف السلطة المركزية.

 

 

اقرأ أيضًا: يزيد بن معاوية بن أبي سفيان

 

المصادر:

الطبري: تاريخ الرسل والملوك.

ابن الأثير: الكامل في التاريخ.

المسعودي: مروج الذهب.

الذهبي: سير أعلام النبلاء.

ابن كثير: البداية والنهاية.

تاريخ ابن خلدون.

السيوطي: تاريخ الخلفاء.

 

الوسوم :

التعليقات

لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات مشابهة

عرض جميع المقالات