كان الخليفة عمر بن عبد العزيز إمامًا عالمًا زاهدًا تقيًا. وكان له اهتمام خاص بالقرآن والحديث والفقه، وتربى على أيدي كبار العلماء، مثل سعيد بن المسيب، وصالح بن كيسان،  وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة. وقد أثرت نشأته على طريقه تفكيره وتعامله مع الرعية خلال فترة إمارته وخلافته. تولى عمر إمارة المدينة المنورة خلال عهد الوليد بن عبد الملك، فأحبه أهلها بفضل صلاحه وعدله. وكان مقربًا من سليمان بن عبد الملك، فقدم له النصح والمشورة لصالح الرعية.

 

حياته في عهد عبد الملك بن مروان

كان عمر يحتل مكانة مميزة بين أمراء البيت الأموي، حيث كان يقدم النصح والمشورة للخلفاء. وكان عمه عبد الملك بن مروان يحبه ويفضله على أبناءه، فزوجه ابنته فاطمة. ورغم قربه من الخليفة، لكن لم يكن له مشاركات في الحكم تذكر، بسبب صغر سنه وانشغاله بطلب العلم. فقد كان عمر متفرغًا لدراسة العلوم الشرعية ومجالسة علماء المدينة المنورة.

ورغم بعده عن أمور السياسة والحكم فقد كان يُذَّكِر عمه عبد الملك بالمسؤولية الملقاة على عاتقة. فقد ذكر ابن الجوزي أنه أرسل له رسالة كتب فيها “أما بعد، فإنك راعٍ، وكلٌّ مسؤولٌ عن رعيته. حدثنا أنس بن مالك أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: كل راعٍ مسؤول عن رعيته، ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾.

وقيل أن عبد الملك قد ولاه على “خناصرة”، وقيل أن الذي ولاه عليها هو سليمان بن عبد الملك. وقد تأثر عمر بن عبد العزيز بوفاة عمه عبد الملك، وقال لابن عمه مسلمة بن عبد الملك: “يا مسلمة، إني حضرت أباك لما دفن، فحملتني عيني عند قبره فرأيته قد أفضى إلى أمر من أمر الله راعني وهالني، فعاهدت الله ألا أعمل بمثل عمله إن وليت، وقد اجتهدت في ذلك”.

 

ولايته على المدينة المنورة في عهد الوليد بن عبد الملك

تولى الخليفة عمر بن عبد العزيز ولاية المدينة المنورة عام 87 من الهجرة، في عهد عمه الوليد بن عبد الملك. ثم ضم إليها الطائف سنة 91 هـ، فصار واليًا على الحجاز كلها. وقد اشترط عمر على عمه الوليد ثلاثة شروط كي يقبل ولاية المدينة المنورة كالتالي:

أن يحكم الناس بالعدل دون أن يظلم أحد، وألا يجور عليهم فيما يؤخذ لبيت المال، وتقليل ما يرسل للخليفة من أموال المدينة المنورة.

أن يذهب إلى الحج خلال أول سنة من إمارته.

وأن يستطيع توزيع العطاء على الناس في المدينة.

وافق الوليد على شروط عمر، وفرح أهل المدينة المنورة بتعينه عليهم فرحًا شديدًا. ثم بدأ عمله بتكوين مجلس للشورى اقتضاءً بالخلفاء الراشدين عرف بـ “مجلس فقهاء المدينة العشرة”. والفقهاء العشرة هم: عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، والقاسم بن محمد، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأخوه عبد الله بن عبد الله بن عمر، وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وسليمان بن يسار، وخارجة بن زيد بن ثابت.

وخلال ولايته على المدينة المنورة، وسع المسجد النبوي الشريف وزخرفه بأمر من الوليد بن عبد الملك. وفي سنة 91 من الهجرة، حج الوليد واستقبله عمر، وقد رأى بنفسه الإصلاحات العظيمة التي قام بها.

 

عزله عن إمارة المدينة وانتقاله إلى دمشق

سنة 92 هـ، قدم الوليد لواء الحج لوالي العراق الحجاج بن يوسف الثقفي. ولما علم عمر بن عبد العزيز بذلك، كتب إلى الوليد يطلب منه ألا يمر عليه الحجاج في المدينة، لأنه يكرهه بسبب ظلمه للرعية. قبل الوليد رغبة عمر، وكتب إلى الحجاج يقول له: “إن عمر بن عبد العزيز كتب إليَّ يستعفيني من ممرك عليه، فلا عليك أن لا تمر بمن كرهك، فتنحّ عن المدينة”.

وكان عمر بن عبد العزيز قد كتب إلى الوليد يخبره بحال العراق، وما يعانيه الناس من ظلم تحت حكم الحجاج. وكان أهل العراق يهربون من بطش الحجاج إلى الحجاز ويستجيرون بعمر. غضب الحجاج من عمر وحاول الانتقام منه، فكتب للوليد “إن من قبلي من مُرّاق أهل العراق وأهل الثقاف قد جلوا عن العراق، ولجأوا إلى المدينة ومكة، وإن ذلك وهن”. ثم كتب يشير عليه بعثمان بن حبان، وخالد بن عبد الله القسري، وعزل عمر عبد العزيز. وكان الوليد يميل إلى سياسة الحجاج، ويعتقد أن توطيد أركان الدولة لا يتم إلا بالقوة حتى وإن كان بها ظلم.

خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة باكيًا، وقال لخادمه مزاحم: “يا مزاحم، نخشى أن نكون من نفت المدينة”. وهنا يشير إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألا إن المدينة كالكير تخرج الخبيث، لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد”.

سار عمر إلى السويداء، وبعد فترة رأى أن الأفضل انتقاله إلى دمشق ليكون بجانب الخليفة، لعله يمنع ظلمًا أو يشارك في إحقاق حق. لكن وجوده في قصر الخليفة جلب له المشاكل، ولم يكن على وافق مع الوليد، بسبب اعتماده على ولاة يستخدمون القسوة في حكم العباد.

وكان عمر يقول: “الوليد بالشام، والحجاج بالعراق، ومحمد بن يوسف (أخو الحجاج) في اليمن، وعثمان بن حيان بالحجاز، وقرة بن شريك في مصر، امتلأت والله الأرض جوراً”.

 

الخليفة عمر بن عبد العزيز في عهد سليمان بن عبد الملك

بعد تسلم سليمان بن عبد الملك الخلافة، قرب إليه عمر بن عبد العزيز وجعله مستشارًا ملازمًا له. وكان يقول له “يا أبا حفص، ما اغتممت بأمر ولا أكربني أمر إلا خطرت فيه على بالي”. وظهر تأثير عمر على سليمان في الكثير من القرارات التي اتخذها، وكان أولها عزله لولاة الحجاج وبعض الولاة الآخرين مثل: عثمان بن حيان والي المدينة، وخالد بن عبد الله القسري والي مكة.

ومن ضمن قراراته أيضًا، الأمر بإقامة الصلاة في وقتها، فقد كانت صلاة الظهر والعصر تصلى بعد وقتها في عهد الوليد بن عبد الملك. وقد كتب سليمان إلى الناس “إن الصلاة قد أميتت فأحيوها”.

كان عمر بن عبد العزيز بجوار سليمان دائمًا، ينصحه ويعظه، ويخبره أن يرد المظالم وأن يحكم بالعدل. فعندما وقف عمر وسليمان بعرفة، تعجب سليمان من كثرة الناس، فقال عمر: “هؤلاء رعيّتُك اليوم، وهم خصماؤك يوم القيامة”، فبكى سليمان وقال: “بالله أستعين”.

وظل الخليفة عمر بن عبد العزيز مقربًا من سليمان بن عبد الملك حتى وفاته. وقبل وفاته وخلال مرضه أوصى أن يتولى خلافة المسلمين عمر. يقول ابن سيرين: “يرحم الله سليمان، افتتح خلافته بإحياء الصلاة، واختتمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز”. وقد توفى سليمان عام 99 من الهجرة، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز.

 

 

 

المصادر:

ابن سعد: الطبقات الكبرى.

ابن كثير: البداية والنهاية.

الذهبي: سير أعلام النبلاء.

ابن عساكر: تاريخ دمشق.

الطبري: تاريخ الأمم والملوك.

ابن الحكم: سيرة عمر بن عبد العزيز.

ابن الجوزي: سيرة عمر بن عبد العزيز.

البلاذري: أنساب الأشراف.

البلاذري: فتوح البلدان.

ابن الأثير: الكامل في التاريخ.

 

 

 

الوسوم :

التعليقات

لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات مشابهة

عرض جميع المقالات