لعبت الخيزران بنت عطاء (ت 173هـ/789م) دورًا محوريًا في التاريخ العباسي المبكر. حيث كانت زوجة الخليفة المهدي وأم الخليفتين الهادي والرشيد. تذكر المصادر التاريخية أنها كانت من أكثر النساء نفوذًا في العصر العباسي الأول، بل إن بعض المؤرخين وصفوها بأنها “صاحبة الكلمة العليا” في الدولة أيام زوجها وأبنائها.
أصلها ونشأتها
تشير المصادر التاريخية مثل “تاريخ الطبري” إلى أن الخيزران دخلت بيت الخلافة كجارية اشتراها الخليفة أبو جعفر المنصور لابنه محمد المهدي عندما كان وليًا للعهد. وقد لفتت انتباه المهدي بذكائها الحاد وجمالها الفائق، حيث كانت تختلف عن سائر الجواري بحسن تصرفها وفصاحتها. يذكر المسعودي في “مروج الذهب” أن المهدي أعتقها وتزوجها رسميًا بعد أن تأكد من كفاءتها وأهلية أصلها، حيث يُعتقد أنها كانت من أسرة نبيلة من سبي خراسان.
ويروي البلاذري في “أنساب الأشراف” أنها وصلت قصر الخلافة ضمن السبي الذي أرسله عامل خراسان إلى البلاط العباسي. وقد ميزها المهدي عن باقي الجواري منذ اللحظة الأولى، حيث لاحظ ثقافتها الواسعة وقدرتها على المحاورة. ويضيف ابن الأثير في “الكامل” أن هذا الزواج لم يكن مجرد زواج عابر، بل تحول إلى شراكة حقيقية في الحكم، حيث أصبحت الخيزران المستشارة الأولى للمهدي بعد الزواج.
دور الخيزران في حياة المهدي
في عهد الخليفة العباسي محمد المهدي، برزت شخصية الخيزران بنت عطاء كواحدة من أكثر النساء نفوذًا في التاريخ العباسي. تشير المصادر التاريخية الموثوقة إلى أن دورها تجاوز بكثير دور الزوجة التقليدية، حيث كانت شريكة حقيقية في صنع القرار السياسي.
ويذكر الطبري في “تاريخ الرسل والملوك” أن الخيزران كانت “تُدير أمور الدولة من وراء الستار”. حيث كان المهدي يستشيرها في أهم شؤون الحكم. وقد أكد المسعودي في “مروج الذهب” هذه الرواية، مضيفًا أن نفوذها امتد ليشمل تعيين وعزل الولاة والقادة. وكانت لها حجرة خاصة في القصر تلتقي فيها بكبار رجال الدولة، وهو ما يعد سابقة في التاريخ العباسي.
ومن أبرز مظاهر تأثير الخيزران في هذا العهد ما ذكره ابن الأثير عن دورها في توجيه السياسة الخارجية، خاصة في علاقات الدولة مع الإمبراطورية البيزنطية. كما لعبت دورًا محوريًا في التخطيط لولاية العهد، حيث سعت جاهدة لضمان خلافة أبنائها (الهادي ثم الرشيد)، وهو ما تحقق بالفعل.
صراعها مع الهادي
شهدت الفترة القصيرة لحكم الخليفة موسى الهادي واحدة من أبرز الصراعات الأسرية في التاريخ العباسي. حيث تصادمت إرادة الخليفة الشاب مع نفوذ والدته الخيزران الذي ترسخ خلال عهد زوجها الخليفة المهدي. ويذكر الطبري أن الهادي قرر منذ توليه الخلافة إنهاء تدخل النساء في شؤون الحكم، وكانت والدته أول المستهدفين بهذه السياسة.
اتخذ الصراع بين الأم وابنها أبعادًا خطيرة، حيث يؤكد المسعودي أن الخيزران حاولت الاستمرار في ممارسة نفوذها كما اعتادت في عهد زوجها، لكنها اصطدمت بإصرار الهادي على استقلاليته في الحكم. وبلغ الخلاف ذروته عندما هددها الهادي (حسب رواية البلاذري) بنفيها من القصر إذا لم تكف عن التدخل في شؤون الدولة وهو تهديد غير مسبوق في التعامل مع أم الخليفة.
من الجانب الآخر، يذكر ابن الأثير في “الكامل في التاريخ” أن الخيزران لم تستسلم بسهولة، حيث عملت على تعبئة العناصر المعارضة لسياسات ابنها في البلاط العباسي. وقد أشارت بعض المصادر إلى أن هذا الصراع كان أحد العوامل التي أدت إلى الوفاة المفاجئة للهادي. حيث توجد روايات (وإن كانت غير مؤكدة) تشير إلى تورط الخيزران في التخلص من ابنها لصالح أخيه هارون الذي كانت تفضله.
عصرها الذهبي مع ابنها هارون الرشيد
في عهد الخليفة هارون الرشيد، بلغت الخيزران بنت عطاء ذروة نفوذها وسلطتها. حيث تحولت من مجرد أم للخليفة إلى شخصية محورية في إدارة شؤون الدولة. ويذكر الطبري أن الرشيد كان “يُجل أمه غاية الإجلال”، ويستشيرها في جميع الأمور المهمة، بدءً من تعيين الوزراء والقادة وانتهاءً بالسياسات العامة للدولة. وقد وصفها المؤرخون بأنها كانت “الركن الركين” الذي يستند إليه نظام الحكم في تلك الفترة.
تميزت علاقة الخيزران بابنها الرشيد بالتفاهم والتعاون الكامل، عكس الصراع الذي ميز علاقتها بابنها الهادي. وفقًا لما ذكره المسعودي في “مروج الذهب”، كانت الخيزران تحضر مجالس الحكم بشكل شبه رسمي، وكان رأيها يحظى باهتمام بالغ من قبل كبار رجال الدولة. وقد لعبت دورًا حاسماً في تعيين البرامكة وتثبيت نفوذهم. حيث كانت تربطها بهم علاقات وثيقة منذ عهد زوجها المهدي. ويذكر ابن الأثير أن الخيزران كانت “صاحبة القول الفصل” في العديد من القرارات المصيرية، مثل توجيه الحملات العسكرية وإبرام المعاهدات السياسية.
وفاة الخيزران
توفيت الخيزران أهم هارون الرشيد سنة 173هـ، ودفنت في بغداد. وقد ترك موتها فراغًا كبيرًا في البلاط العباسي. يذكر الخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد” أن الرشيد حزن عليها حزنًا شديدًا، وأمر بإقامة المراسم الجنائزية التي تليق بمكانتها.
تمثل الخيزران نموذجًا فريدًا للمرأة القوية في التاريخ الإسلامي. وقد استطاعت من موقعها كزوجة وأم أن تؤثر في مسار الدولة العباسية في أهم مراحل بنائها. ورغم الانتقادات التي وجهها بعض المؤرخين لتدخلها في الشؤون السياسية، إلا أن دورها كان محوريًا في ترسيخ حكم العباسيين.
اقرأ أيضًا: الخليفة الوليد بن عبد الملك
المصادر:
الطبري: تاريخ الرسل والملوك.
المسعودي: مروج الذهب.
ابن الأثير: الكامل في التاريخ.
البلاذري: أنساب الأشراف.
الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد.
تاريخ اليعقوبي.
التعليقات
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!
اترك تعليق