تمثل فترة العصر العباسي الثاني مرحلة بالغة الأهمية في التاريخ الإسلامي. حيث شهدت تحولاً جذريًا في موازين القوة داخل الدولة العباسية، بعد أن أصبح القادة الأتراك أصحاب الكلمة الأولى في تعيين الخلفاء وعزلهم وقتلهم. وقد بدأت هذه المرحلة الدقيقة مع مقتل المتوكل على الله سنة 247هـ/861م، وانتهت تقريبًا مع تأسيس الدولة البويهية سنة 334هـ/946م.
الخفية التاريخية لنفوذ الأتراك
تعود جذور سيطرة الأتراك إلى عهد الخليفة المعتصم بالله (218-227هـ)، الذي اعتمد عليهم كقوة عسكرية أساسية في الجيش. وقد ذكر الطبري في تاريخه أن المعتصم “أكثر من شراء الأتراك وجعلهم عنده عدة وعتاد”. ومع مرور الوقت، تحول هؤلاء المماليك من مجرد جنود إلى قادة مؤثرين في السياسة، خاصة بعد نقل العاصمة إلى سامراء التي أصبحت معقلاً للعناصر التركية.
سيطرة الأتراك على الخلافة في العصر العباسي الثاني
يذكر الطبري في تاريخه أن الأتراك أصبحوا “يتصرفون في الخلافة تصرف المالك في ملكه”. وتميزت طبيعة السيطرة التركية بسمات خاصة، حيث تحول الخلفاء إلى مجرد رموز شكلية بينما كانت القرارات المصيرية تتخذ في مجالس القادة الأتراك. وقد وثق ابن الأثير في الكامل العديد من الحوادث التي تظهر هذا الواقع. مثل حادثة خلع الخليفة المستعين بالله عام 251هـ، حيث أجبره الأتراك على التنازل عن الحكم بعد أن حاصروه في قصره وقطعوا عنه المؤن.
واتخذت السيطرة التركية أشكالًا متعددة، فمن الناحية العسكرية أصبح الأتراك يسيطرون على الجيش بشكل كامل. ومن الناحية المالية كانوا يتصرفون في خزائن الدولة كما يشاؤون. يذكر المسعودي في مروج الذهب أن القادة الأتراك كانوا “يأخذون الأموال من الخزائن دون حساب، وينفقونها على حاشيتهم وجنودهم”. مما أدى إلى إفلاس الخزينة العامة في كثير من الأحيان.
لم تكن سيطرة الأتراك مجرد هيمنة عسكرية، بل تحولت إلى نظام حكم فعلي. فقد أصبح تعيين الولاة وعزلهم من اختصاصهم، كما كانوا يتدخلون في شؤون القضاء والإدارة. وقد وصف الذهبي في سير أعلام النبلاء هذه الحالة بقوله: “صار الخلفاء كالأسرى في قصورهم، لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا”.
واجهت هذه السيطرة بعض المحاولات للمقاومة، أبرزها محاولة الخليفة المهتدي بالله عام 255هـ استعادة السلطة، لكنها باءت بالفشل وسرعان ما قُتل على يد الأتراك. وقد علق ابن كثير على هذه الحادثة في البداية والنهاية بقوله: “كانت محاولة يائسة في ظل اختلال موازين القوة”.
ظهور الدويلات المستقلة في العصر العباسي الثاني
أدت سيطرة الأتراك إلى نتائج خطيرة على الدولة العباسية. حيث فقدت هيبة الخلافة تدريجيًا، وتفككت الوحدة السياسية للدولة، وظهرت الدويلات المستقلة في الأطراف. كما يرى ابن خلدون في مقدمته أن سيطرة الأتراك “أفسدت نظام الحكم، وجعلت الولاة يتصرفون كالملوك المستقلين”.
في المغرب العربي، كانت دولة الأدارسة (172-375هـ) أولى هذه الكيانات المستقلة. حيث أسس إدريس بن عبد الله دولة في فاس سنة 172هـ. يصفها المسعودي في مروج الذهب بأنها “أول خلع لطاعة العباسيين في المغرب”. ثم تلتها دولة الأغالبة (184-296هـ) في تونس، التي حافظت على استقلال فعلي رغم اعترافها الاسمي بالخلافة العباسية.
وفي المشرق الإسلامي، ظهرت الدولة الطاهرية (205-259هـ) في خراسان، التي وصفها الطبري بأنها “كانت تحكم باسم العباسيين ولكنها مستقلة في تدبير شؤونها”. ثم تلتها الدولة الصفارية (247-393) التي أسسها يعقوب بن الليث، والذي يذكر ابن الأثير في الكامل أنه “كان يضرب باسمه السكة وينصب الخطبة لنفسه”.
أما في مصر والشام، فقد شهدت ظهور الدولة الطولونية (254-292هـ) التي أسسها أحمد بن طولون. يذكر المقريزي في المواعظ والاعتبار أن ابن طولون “استقل بمصر عن الخلافة، وبنى فيها ما شاء من العمائر”. ثم جاءت الدولة الإخشيدية (323-358هـ) التي حكمت مصر قبل مجيء الفاطميين.
وفي بلاد الشام والجزيرة الفراتية، ظهرت دولة الحمدانيين (293-394هـ) التي اشتهرت بعصر سيف الدولة الحمداني وأدبه. يثني ابن كثير في البداية والنهاية على هذه الدولة بقوله: “كانت حلب في عهدهم حاضرة للعلم والأدب”.
أما في العراق وقلب الدولة العباسية، فقد ظهرت نزعات استقلالية متعددة، وإن لم تصل إلى تأسيس دول كاملة. يذكر ابن طباطبا في الفخري أن “كثيرًا من الولاة في العراق كانوا يتصرفون كالحكام المستقلين، خاصة في البصرة والكوفة”.
أبرز الأحداث خلال العصر العباسي الثاني
شهد العصر العباسي الثاني سلسلة من الأحداث الجسام التي شكلت منعطفات حاسمة في تاريخ الخلافة. ومن أبرز هذه الأحداث مقتل الخليفة المتوكل على الله سنة 247هـ، الذي مثّل بداية عصر الهيمنة التركية الكاملة. وقد وصف ابن الأثير في الكامل هذه الحادثة بأنها “فتحت باب الفتنة على مصراعيه”. حيث تلاها فترة من الفوضى عرفت بفتنة سامراء (247-256هـ)، التي شهدت تعاقب أربعة خلفاء في تسع سنوات فقط، قُتل ثلاثة منهم على يد الأتراك.
وفي سنة 251هـ، حدثت واقعة خلع الخليفة المستعين بالله، التي سجلها المسعودي في مروج الذهب بتفاصيل مروعة. حيث حاصر الأتراك الخليفة في قصره وقطعوا عنه المؤن حتى اضطره للتنازل عن الحكم. ثم جاءت محاولة الخليفة المهتدي بالله سنة 255هـ لاستعادة السلطة، التي انتهت بقتله بعد حكم دام أقل من عام.
شهدت سنة 256هـ حدثًا مهمًا وهو نهاية فتنة سامراء بتولي المعتمد على الله الخلافة، والذي حاول إعادة بعض الاستقرار رغم استمرار الهيمنة التركية. وفي هذه الفترة، ظهرت ثورة الزنج (255-270هـ) التي استنزفت موارد الدولة، حيث وصفها الذهبي في سير أعلام النبلاء بأنها “أعظم فتنة شهدها العراق في ذلك العصر”.
في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، برز نفوذ القائد التركي بدر المعتزّي. الذي وثق ابن خلدون في تاريخه كيف أنه “كان يتصرف في الخلافة تصرف المالك في ملكه”. ثم جاء عهد الخليفة المقتدر بالله (295-320هـ) الذي شهد ذروة سيطرة الأتراك. حيث قُتل عام 320هـ بعد صراع مع قادتهم، في حادثة وصفها ابن الأثير بأنها “مثلت نهاية أي محاولة لاستعادة سلطة الخلافة”.
المصادر:
ابن الأثير: الكامل في التاريخ.
الطبري: تاريخ الرسل والملوك.
المسعودي: مروج الذهب.
ابن كثير: البداية والنهاية.
الذهبي: سير أعلام النبلاء.
ابن خلدون: المقدمة.
المقريزي: المواعظ والاعتبار.
ابن طباطبا: الفخري.
التعليقات
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!
اترك تعليق