القهوة: المشروب الذي هز العروش وأشعل الجدل
لم يكن في العالم العربي قبل القرن الخامس عشر شيء اسمه “القهوة” بمفهومها المتداول اليوم، فقد كانت كلمة “القهوة” تُطلق في اللغة العربية الكلاسيكية على الخمر، ويقال إن أصل تسميتها بذلك لأنها تُقهي شاربها عن الطعام، أي تذهب بشهوته.
ومن هنا كانت أولى إشارات التوجس والارتياب من هذا المشروب الجديد الذي شق طريقه إلى العقول والقلوب، ففتح أفقاً جديداً للذوق والثقافة، وأثار معارك فكرية حادة بين كبار الفقهاء.
الاكتشاف الصوفي للبُن
تعود قصة اكتشاف القهوة إلى الشيخ الصوفي العارف أبي بكر بن عبد الله الشاذلي العيدروس (ت 909هـ/1504م)، أحد أعلام التصوف في اليمن، خلال إحدى رحلاته، عثر العيدروس على شجرة البن، وتذوّق ثمارها فوجد فيها قوةً تبعث على السهر، وتنشّط الذهن وتعين على العبادة، وقد اتخذ منها قوتاً وشراباً، ودعا أتباعه إلى استعمالها، فبدأت رحلتها من اليمن إلى الحجاز، ثم إلى مصر والشام.
ويقول المؤرخ ابن العماد الحنبلي إن العيدروس هو “مبتكر القهوة المتخذة من البن المجلوب من اليمن”، في إشارة واضحة إلى الأثر الكبير لهذا الشيخ في نشر هذه النبتة ذات التأثير المتفرد.
القهوة تحت مجهر الفقهاء
ما إن ذاعت شهرة القهوة وانتشر شربها حتى بدأت الأسئلة تُثار حول مشروعية استعمالها، ففي عام 917هـ/1511م، وقعت حادثة مفصلية في مكة المكرمة، حين كان الأمير المملوكي خاير بك، ناظر الحرم، مارّاً ذات ليلة بين الكعبة وبيته، لمح جمعاً من الناس يحتفلون بـ المولد النبوي الشريف ويشربون شيئاً في كؤوس تُتداول بينهم على هيئة أشبه بـ شرب الخمر، وعندما سأل عن هذا الشراب، قيل له إنه يُدعى “قهوة“، يُصنع من قشر ثمرة البن القادمة من اليمن.
اعتُبر هذا المشهد مستفزاً لـ ناظر الحسبة، المسؤول عن الآداب العامة، فاستدعى القضاة والعلماء وطلبة العلم، ومنهم قاضي القضاة صلاح الدين بن ظهيرة الشافعي، والقاضي نجم الدين بن عبد الوهاب المالكي، نُوقشت القضية بحدة، وتم التمييز بين ذات “القهوة” كمادة، وبين السياق الاجتماعي الذي يجري فيه تعاطيها، ثم أُحيلت المسألة إلى الطب، فجُلب الأخوان نور الدين وعلاء الدين الكازروني، اللذان شهدا بأن القهوة “باردة يابسة مفسدة للبدن المعتدل“.
رغم ذلك، اعترض أحد العلماء الحاضرين قائلاً إن القهوة مباحة ومفيدة، لكنهم ردوا عليه بقاعدة فقهية مفادها أن “كل طاعة جرّت إلى معصية سقطت“، فصدر أمر رسمي بمنعها في مكة، ليكون هذا القرار الشرارة التي أشعلت قرنًا من الجدل بين العلماء والولاة.
الفارق بين “قهوة” العرب و”قهوة” البن
كان مصطلح “القهوة“ مشحوناً سلبياً في الوعي اللغوي والفقهي، لأنه ارتبط بـالخمر، لكن المدافعين عن القهوة الجديدة بيّنوا أنها تختلف تماماً؛ فهي لا تذهب العقل، بل تنعش الذاكرة وتساعد على السهر والتأمل.
وقد وصل النقاش إلى السلطان قنصوه الغوري في القاهرة، الذي أيّد المنع، ووافقه الإمام زكريا الأنصاري (ت 926هـ)، غير أن مجموعة من علماء المالكية دافعوا عن القهوة، وطلبوا من الأنصاري تجربتها، ففعل، ولم يجد في شربها أي أثر سلبي، فكتب مصنَّفاً في حلها.
مؤيدون ومعارضون.. والمعركة تشتد
الجدل حول القهوة أنتج كمًّا كبيراً من الرسائل الفقهية، مثل رسالة الكازروني في التحريم، ورسالة أبي بكر المكي “إثارة النخوة بحكم القهوة”، ثم “إجابة الدعوة بنص القهوة”، بل نظم العلماء والأدباء أشعاراً في مدح القهوة، ومنها ما قاله الشيخ عبد الرؤوف بن يحيى الواعظ:
قد شَرِبنا قهوة بُنية … ولها شربنا غَدا بالنيِّه
لونها قد حكى أذا يبمسكٍ … أو زبَاد وسط الزباد الجلية
ومن شعر الغزل بها:
أنا المعشوقة السمرا … أجلى في الفناجين
وعُود الهند ليعطر … وذكري شاع في الصين!
القهوة وتحوّلها الاقتصادي والثقافي
في القرن العاشر الهجري، تحوّلت القهوة من قضية فقهية إلى سلعة اقتصادية رئيسية، ومع اضمحلال تجارة البهارات التي كانت تمر بمصر، صارت تجارة البن بديلاً حيوياً يُنعش الأسواق، وأصبح كبار التجار مثل إسماعيل أبو طاقية يجنون منها الألوف، وأسهم في بناء أول مقهى عام في القاهرة.
تطورت المقاهي إلى مراكز ثقافية، تُتداول فيها الأخبار وتُناقش الأفكار، وتجتمع فيها حلقات الذكر والإنشاد، كان المقهى الإسلامي ظاهرة اجتماعية مبكرة سبقت مثيلاتها في أوروبا.
مقاومة الفقهاء تتراجع
في دمشق، احتدم الجدل بين الشيخ أبو الفتح المكي المؤيد، ويونس العيثاوي المناوئ، استمر النزاع سنوات، وبلغ ذروته في عهد الوالي العثماني لالا مصطفى باشا، الذي كان يميل لتأييد القهوة، مما رجّح كفة المؤيدين.
لكن عام 968هـ/1572م صدر قرار جديد من السلطان سليمان القانوني بمنع القهوة مع باقي “المنكرات والمسكرات”، نُفّذ القرار بقسوة في القاهرة، حيث كُسرت أواني القهوة وهُدمت مواقدها، وضُرب الناس، وقد روى المؤرخ الجزيري هذه الحملة بأسى بالغ، قائلاً: “إنها كانت أشد مما فُعل في الحشيشة والخمر”.
استخدم السلاطين العثمانيون الجدل حول القهوة كأداة للسيطرة، على سبيل المثال، أصدر السلطان مراد الرابع قراراً بتحريم القهوة، وأمر بقطع رأس كل من يجاهر بشربها، بحجة أنها “تنبه العقول وتثير النقاشات ضد السلطة، وتتهدد الامن العام”.
القهوة تنتصر أخيراً
مع مرور الوقت، تراخت الدولة في تنفيذ المنع، وانتصر عشاق القهوة من العلماء والأدباء، وصارت القهوة مشروبا اجتماعيا راسخا، وقد وصف الشاعر برهان الدين بن المبلّط هذا الانتصار بقوله:
أرى قهوة البن في عصرنا … على شُربها النّاسُ قد أجمعوا
وصارت لشرابها عادة … وليست تضرّ ولا تنفع
وفي منتصف القرن السادس عشر، افتُتحت أول قهاوي إسطنبول، وكان أصحابها من الشام، ومع نهاية القرن، كانت القاهرة، دمشق، وبغداد تعجّ بالمقاهي، وقد وصف الرحالة الأوروبي هنري كاستيلا (1601م) أنه رأى في القاهرة “حانات يُشرب فيها ماء أسود ساخن“، بينما وصف الرحالة يوهان فيلد (1610م) مقاهي دمياط بأنها أماكن مخصصة لهذا المشروب الغريب عليه.
أوروبا تذوق القهوة: من الفزع إلى الفتوى البابوية
حين وصلت القهوة إلى فينيسيا عام 1615م، استقبلها بعض رجال الكنيسة المسيحية بريبة، وعدّوها مشروبا شيطانيا قادما من المسلمين، وبلغ الجدل ذروته عندما عُرض الأمر على البابا كليمنت الثامن، الذي طلب تذوقها بنفسه، ثم أعجب بها وقال قولته الشهيرة: “هذا المشروب الشيطاني لذيذ للغاية، فلنخدعه ونعمده”، وهكذا حصلت القهوة على تأييد كنسي رسمي.
أما في بروسيا، فقد حاربها الملك فريدرش فيلهلم الثاني عام 1777م، واعتبرها خطرا اقتصاديا لأنها مستوردة من الخارج، على خلاف البيرة التي تُنتج محليا، وقد أصدر مرسومًا يشجع فيه شعبه على شرب البيرة بدلا من القهوة بحجة تقوية أجساد الجنود.
وفي إنجلترا، أسس التجار أول مقهى في لندن عام 1652م، سرعان ما تحول إلى ملتقى للنخبة والمثقفين، وانتشرت ظاهرة “منازل القهوة” التي عرفت بـ “جامعات بنسِ واحد” حيث يمكن للزبون أن يشتري كوب قهوة مقابل بنس ويجلس يتصفح الصحف ويتبادل الآراء
فوائد القهوة.. ومكانتها الحديثة
في خضم الجدل، لم يغب عن العلماء ذكر فوائد القهوة؛ فقد وُصفت بأنها تنشّط الذهن، وتساعد على الهضم، وتُعين على السهر للعلم أو العبادة، انتقلت القهوة من مجالها الصوفي إلى الثقافة العامة، ومن الأسواق الإسلامية إلى المقاهي الأوروبية، وبذلك أسهم المسلمون لا في استهلاك القهوة فحسب، بل في توطيدها عالميًا بوصفها رمزاً حضارياً وثقافياً.
هكذا تحولت القهوة من شجرة برية إلى رمز حضاري عالمي، ومرت برحلة طويلة من التحريم إلى التقديس، ومن الحذر إلى الانتشار، وإذا كان 19 سبتمبر يوما عالميا للاحتفال بالقهوة، فإن التاريخ نفسه يحتفي بها كل يوم، في فنجان تُسكب فيه الذكريات والكتب، وتُروى حوله القصص وتُشعل الثورات.
فالقهوة ليست مشروبًا فحسب، بل تاريخ يُشرب، وحضارة تُرتشف.
المصادر:
من التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي، محمد م. الأرناؤوط.
عمدة الصفوة في حل القهوة، عبد القادر بن محمد الأنصاري الجزيري.
التعليقات
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!
اترك تعليق