يُعدُّ المعتمد بن عباد (431–488 هـ / 1040–1095 م) أحد أشهر حكام الأندلس في عصر ملوك الطوائف، حيث حكم إشبيلية ووسع نفوذها لتصبح من أقوى الممالك في عصره. اشتهر بقوته السياسية والعسكرية، كما كان شاعرًا وأديبًا، فجمع بين الحنكة السياسية والرقة الأدبية. ومع ذلك، انتهى حكمه بمأساة عندما غزا المرابطون الأندلس وقضوا على دولته.
نسب المعتمد بن عباد
ينتمي المعتمد بن عباد إلى أسرة عربية عريقة تُعرف بـ بني عباد، التي ترجع في أصولها إلى قبيلة لخم اليمنية. استقرت هذه الأسرة في الأندلس خلال العصر الأموي، وبرزت كواحدة من الأسر المؤثرة في الحياة السياسية والأدبية. كان جده إسماعيل بن عباد من رجال الدولة في عصر الخلافة الأموية، بينما كان أبوه المعتضد بن عباد من أبرز حكام إشبيلية، حيث أسس مملكة قوية ووسع نفوذها في جنوب الأندلس.
نشأته وحياته قبل الحكم
وُلد المعتمد بن عباد في إشبيلية سنة 431 هـ / 1040 م، ونشأ في قصر أبيه الذي كان مركزًا للعلم والأدب. تلقى تعليمًا راقيًا على يد أشهر المعلمين في عصره، حيث درس القرآن الكريم، والفقه، واللغة العربية، والشعر، والتاريخ. كما تأثر ببيئته الأندلسية المزدهرة، التي جمعت بين الثقافة العربية الإسلامية والمؤثرات الأوروبية.
ترعرع المعتمد في فترة مضطربة، حيث كانت فتنة الأندلس الكبرى (399–422 هـ) قد أنهت الخلافة الأموية، وحولتها إلى دويلات صغيرة، تُعرف بـ ملوك الطوائف. وكان أبوه المعتضد بن عباد من أبرز هؤلاء الملوك، حيث حوَّل إشبيلية إلى مملكة قوية، ووسع نفوذها عبر التحالفات والحروب.
قبل أن يتولى الحكم، عاش المعتمد حياة الأمراء في بلاط إشبيلية، حيث احتك بالشعراء والعلماء، وتعلم فنون الإدارة والسياسة. وكان أبوه المعتضد يُعدّه لخلافته، فأسند إليه بعض المهام العسكرية والإدارية ليتدرب على الحكم. كما شارك في بعض الحملات العسكرية، مما أكسبه خبرة في قيادة الجيوش وإدارة الصراعات السياسية.
وعندما توفي المعتضد سنة 461 هـ / 1069 م، تولى المعتمد الحكم، وهو في الثلاثين من عمره.
المعتمد بن عباد الشاعر والأديب
نشأ المعتمد في بيئة أدبية رفيعة، حيث كان أبوه شاعرًا وأديبًا، كما أن بلاط إشبيلية كان يجمع كبار الشعراء مثل ابن زيدون وابن عمار. تأثر بهذه البيئة، فبرع في الشعر منذ صغره، وكان ينظم القصائد في المدح والغزل والوصف. وقد شكلت هذه الثقافة الأدبية شخصيته، فجمع بين الحنكة السياسية والرقة الفنية، مما ميزه عن غيره من حكام عصره.
وعندما كبر المعتمد، بدأ أبوه المعتضد يعدّه لخلافته، فجعله وليًا للعهد، وأشركه في صنع القرارات المهمة. كما زوّجه من اعتماد الرميكية، التي كانت شاعرة مثقفة، وأصبحت لاحقًا من أهم الشخصيات المؤثرة في حياته. وقد ترك ديوانًا شعريًا يعكس تجاربه الشخصية، بين الفرح بالملك والحزن على فقدانه. وتميز شعره بـ:
الصدق العاطفي: خاصة في قصائده التي كتبها في المنفى، يعبر فيها عن حنينه لإشبيلية.
الرقة والجزالة: جمع بين العذوبة والقوة في التعبير.
التأثر بالبيئة الأندلسية: فوصف الطبيعة وقصوره ببراعة.
صراع المعتمد بن عباد مع ملوط الطوائف
شهد عصر المعتمد بن عباد ذروة التنافس بين ممالك الطوائف في الأندلس، حيث كانت كل إمارة تسعى لتعزيز نفوذها على حساب الأخرى. وبدأت أولى مواجهات المعتمد مع محمد بن ذي النون حاكم طليطلة، التي كانت تعدّ من أقوى ممالك الطوائف. وقد سجل ابن بسام في “الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة” كيف تحالف المعتمد في البداية مع طليطلة ضد مملكة بطليوس، لكن هذا التحالف انقلب إلى عداء عندما حاول بنو ذي النون التوسع جنوبًا. وقد انتهى هذا الصراع بضم المعتمد لبعض أراضي طليطلة بعد أن أضعفها تقدم ألفونسو السادس.
وشكل عبد الله بن الأفطس حاكم بطليوس الخصم الأشرس للمعتمد بن عباد. وقد وصف ابن عذاري في “البيان المغرب” سلسلة المعارك الطويلة بين الطرفين، حيث حاول كل منهما السيطرة على طرق التجارة والمدن الاستراتيجية. وبلغ الصراع ذروته عندما استولى المعتمد على بعض قلاع بطليوس، لكنه لم يتمكن من القضاء نهائيًا على خصمه.
وفي شرق الأندلس، واجه المعتمد منافسة قوية من أحمد المقتدر بن هود حاكم سرقسطة. وقد ذكر ليفي بروفنسال في “تاريخ إسبانيا الإسلامية” كيف تحالف بنو هود مع قشتالة لموازنة نفوذ إشبيلية، مما أدى إلى حالة من الحرب الباردة بين المملكتين.
وتميزت حروب المعتمد مع ملوك الطوائف بالاعتماد الكبير على المال لشراء الولاءات. وقد وثق محمود علي مكي في “دراسات في تاريخ الأندلس” كيف أنفق المعتمد أموالًا طائلة على الجيوش المرتزقة والتحالفات المؤقتة، مما أضعف خزينة الدولة على المدى الطويل.
أدت هذه الحروب المستمرة إلى إضعاف ممالك الطوائف بشكل عام، وجعلتها فريسة سهلة لألفونسو السادس من جهة والمرابطين من جهة أخرى. وقد علق ابن خلدون في “العبر” على هذه الحالة بقوله: “تناحروا حتى أكل بعضهم بعضًا، فسهل الله للمرابطين أمرهم”.
علاقته بمملكة قشتالة
تشكلت علاقة المعتمد بن عباد مع مملكة قشتالة المسيحية في إطار التوازنات السياسية المعقدة التي ميزت عصر ملوك الطوائف. فقد وجد حاكم إشبيلية نفسه في مواجهة تهديد متزايد من الشمال، بينما كان مشغولًا بالصراعات مع جيرانه المسلمين. يذكر ابن خلدون أن هذه الفترة شهدت تحولًا في ميزان القوة لصالح الممالك المسيحية، خاصة تحت حكم ألفونسو السادس.
في السنوات الأولى من حكمه، اتبع المعتمد سياسة أبيه المعتضد في دفع الجزية السنوية لألفونسو السادس. ويشير ليفي بروفنسال في “تاريخ إسبانيا الإسلامية” إلى أن هذه الجزية بلغت 10,000 دينار ذهبي سنويًا، مقابل ضمان الحدود والامتناع عن الهجوم. وقد قبل المعتمد بهذا الوضع كحل مؤقت لإتاحة الفرصة لتعزيز قوته الداخلية.
لكن تغيرت طبيعة العلاقة عندما طالب ألفونسو السادس بزيادة كبيرة في الجزية. وتذكر المصادر التاريخية ومنها “نفح الطيب” للمقري أن ألفونسو طلب مضاعفة المبلغ، بل وطالب بتسليم بعض الحصون الحدودية. وقد رد المعتمد برسالة شهيرة نقلها ابن بسام في “الذخيرة”: “أما الذهب فسأرسله إليك مصهورًا في رماح رجالي”، مما أشعل فتيل الحرب بين الطرفين”.
ومن عام 1082م إلى 1086م، دخل الطرفان في سلسلة من المواجهات العسكرية. ووفقًا لابن عذاري، شن ألفونسو عدة حملات على أراضي إشبيلية، بينما قام المعتمد بهجمات انتقامية. وقد بلغت الأزمة ذروتها عندما استولى ألفونسو على مدينة طليطلة الإسلامية عام 478هـ/1085م، مما شكل صدمة للعالم الإسلامي في الأندلس.
استنجاد المعتمد بن عباد بدولة المرابطين
عندما اشتدت ضغوط ألفونسو السادس على مملكة إشبيلية، وجد المعتمد بن عباد نفسه في مأزق تاريخي. فمن ناحية كان يخشى فقدان استقلاليته إذا استمر في دفع الجزية الباهظة التي طالب بها ألفونسو، ومن ناحية أخرى كان يدرك أن مواجهته العسكرية المباشرة مع قشتالة قد تكون خاسرة.
وفي هذا المنعطف الحرج، اتخذ المعتمد قرارًا مصيريًا بالاستنجاد بيوسف بن تاشفين زعيم المرابطين في المغرب. وقد وثق ابن الأبار في “الحلة السيراء” نص الرسالة المؤثرة التي أرسلها المعتمد إلى ابن تاشفين، والتي جاء فيها: “إن سقطت إشبيلية سقطت الأندلس، وإن سقطت الأندلس سقط الإسلام في المغرب”.
كان استدعاء المرابطين لحظة فارقة في تاريخ الأندلس، حيث أدى إلى انتصار المسلمين في معركة الزلاقة عام 479هـ/1086م، كما يذكر ابن عذاري في “البيان المغرب”. لكن هذا النصر جاء بثمن باهظ، إذ سرعان ما أدرك المرابطون ضعف ممالك الطوائف وفساد حكامها، فقرروا القضاء عليها وضم أراضيها.
وأخيرًا، حاصر المرابطون إشبيلية وخلعوا المعتمد بن عباد عام 484هـ/1091م، كما يسجل المقري في “نفح الطيب”. لقد كان استنجاد المعتمد بالمرابطين حلمًا أنقذ الأندلس في اللحظة الحرجة، لكنه تحول إلى كابوس أنهى عصر ملوك الطوائف وحكم بني عباد.
وفاة المعتمد بن عباد
بعد سقوط مملكته وإذلاله بالنفي، قضى المعتمد بن عباد آخر أيامه في المغرب، حيث عاش في فقر مع أسرته. وتوفي سنة 488هـ/1095م بعد أربع سنوات من النفي.
وقد خلّد الشعراء مأساته، فكانت وفاته موضوعًا للعديد من المراثي التي رثت حال الملك الشاعر الذي انقلب عليه الزمان. أما قبره فلا يزال موجودًا حتى اليوم، شاهدا على نهاية مأساوية لحاكم جمع بين القوة والشعر، ثم انتهى به المطاف أسيرًا منسيًا في المنفى.
اقرأ أيضًا: فتوحات عثمان بن عفان
المصادر:
ابن خلكان: وفيات الأعيان.
المقري: نفح الطيب.
ابن الأبار: الحلة السيراء.
ليفي بروفنسال: تاريخ إسبانيا الإسلامية.
ابن خلدون: كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر.
ابن بسام الشنتريني: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة.
محمود علي مكي: دراسات في تاريخ الأندلس.
ابن عذاري المراكشي: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب.
التعليقات
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!
اترك تعليق