كان أصحمة النجاشي ملك الحبشة، عادلًا لا يُظلم عنده أحدًا كما قال عنه رسول الله. تولى مُلك الحبشة بعد وفاة عمه بسبب صاعقة، وكان صغيرًا لم يتجاوز التاسعة من عمره. بعد سنوات من حكمه نجح في حماية الحبشة، ونشر فيها العدل والخير بعد أن كانت مليئة بالظلم والشر. ورغم أنه عاصر النبي، لكنه ليس صحابيًا بل تابعي، لأنه لم يرى رسول الله أبدًا.

 

هجرة المسلمين إلى الحبشة

كان رسول الله يعلم أن ملك الحبشة رجلًا عادلًا، لن يظلم من يلجأ إليه، لذلك أمر المسلمين الأوائل بالهجرة إلى أرضه، هربًا من اضطهاد قريش. وكانت الهجرة إلى الحبشة في المرة الأولى في شهر رجب سنة 5 من البعثة، الموافق 615 م. وكان عدد الذين هاجروا 11 رجلًا و 4 نسوة، تحت إمارة عثمان بن مظعون. وقيل كانوا 12 رجلًا، وامرأتان فقط.

لكن لم تستمر الهجرة الأولى إلى الحبشة كثيرًا، فبعد فترة قصيرة وصل خبر للمهاجرين أن أهل مكة قد أسلموا. فاجتمعوا وقرروا الرجوع إلى أرض الوطن في شهر شوال من نفس العام، أي بعد أقل من شهرين. وعندما وصلوا إلى حدود مكة، علموا أن هذا الخبر كاذبًا، فمنهم من عاد إلى الحبشة ومنهم من دخل مكة متخفيًا.

بعد أن عاد بعض المهاجرين إلى مكة، ورأوا أن الوضع نفسه قائمًا، وما زالت قريش تمارس التعذيب والاضطهاد عليهم، أمرهم رسول الله بالهجرة إلى الحبشة مرة ثانية. واختلف العلماء والمؤرخين في عدد المهاجرين هذه المرة، فقيل كانوا 83 رجلًا، و19 امرأة. وذكر الطبري أنهم كانوا 82 رجلًا غير النساء والأطفال. وكان جعفر بن أبي طالب هو المسؤول عنهم هذه المرة.

وعاش المسلمون في الحبشة في سلام وأمان. تقول أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها “لما نزلنا أرض الحبشة، جاورْنا بها خيرَ جارٍ النجاشيَّ، أمِنَّا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكره”.

 

وفد قريش إلى النجاشي

غضبت قريش من هجرة المسلمين إلى الحبشة، خاصة أنهم يمارسون طقوس دينهم بسلام ويعيشون في أمان. اجتمعوا في دار الندوة، وقرروا إرسال الرسل إلى النجاشي ملك الحبشة، ومعهم الهدايا والعطايا. واختاروا لهذه المهمة عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد، وقيل عبد الله بن أبي ربيعة. فقابلوا البطارقة أولًا، وأعطوهم الهدايا، وطلبوا منهم نصيحة النجاشي برد المسلمين إليهم.

عندما دخل عمرو بن العاص ومن معه على النجاشي سجدا له وسلما عليه، وطلبوا منه عودة المسلمين معهم. لكن ملك الحبشة أراد الاستماع إلى المسلمين أولًا، ولما أرسل إليهم اجتمعوا واتفقوا على ما يقولونه أمامه.  فقالوا: “نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن”.

 

كلام جعفر بن أبي طالب مع النجاشي

لما دخل الصحابة على النجاشي وكان على رأسهم جعفر بن أبي طالب، قال لهم “ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟”. رد عليه سيدنا جعفر رضي الله عنه، ردًا عظيمًا، وكان مما قاله:

“أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف. فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه. فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء. ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات. وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه وآمنَّا به، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا. فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك”.

تأثر النجاشي بكلام سيدنا جعفر رضي الله عنه، وقال له “هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟”. فقال جعفر “نعم”، فقال النجاشي “فاقرأه عليّ”، فقرأ عليه أول سورة مريم.

فقال “إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون”. وتقول أم سلمة رضي الله عنها “بكى النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكى الأساقفة حين سمعوا ما تلا عليهم، حتى أخضلوا مصاحفهم”.

 

إسلام النجاشي

لما خرج عمرو بن العاص ومن معه  من عند النجاشي قال “والله لآتينه غداً عنهم بما أستأصل به خضراءهم”، فقال له من كان معه “لا نفعل، فإن لهم أرحاماً، وإن كانوا قد خالفونا”، قال “والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد”.

في اليوم التالي ذهب عمرو إلى النجاشي وقال له “إنهم يقولون في عيسى قولًا عظيمًا، فسلهم عما يقولون”. وكانت هذه محاولة للوقيعة بسبب اختلاف عقيدة المسلمين والنصارى في شأن عيسى بن مريم. اجتمع المسلمون وتشاورا فيما يقولونه، وقرروا قول الحق الذي يؤمنون به. فقال جعفر للنجاشي “نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول”.

ضرب النجاشي الأرض بيده أي، ثم قال: يا معشر القسيسين والرهبان، ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم. مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشَّرَ به عيسى، امكثوا في أرضي ما شئتم”. ثم رد هدايا قريش، وعاد عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة أو عمارة بن الوليد إلى قريش خائبون.

وقد ورد أن رسول الله كان يبعث بالرسل إلى الملوك والأمراء ويدعوهم إلى الإسلام، فأرسل إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري. وعندما وصل كتاب النبي للنجاشي أعلن إسلامه، وقال (لو كنت أستطيع أنْ آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم لذهبت إليه، وغسلت رجليه). وكتب إلى رسول الله وأعلن إسلامه وتصديقه بنبوته.

 

وكالة النبي له في الزواج

لم يحمل عمرو بن أمية الضمري رسالة النبي الخاصة بدعوة النجاشي إلى الإسلام فقط، بل حمل رسالة أخرى يوكله فيها رسول الله بزواجه من السيدة أم حبيبة، رملة بنت أبي سفيان. وكانت رضي الله عنها هاجرت إلى الحبشة برفقة زوجها عبيد الله بن جحش، لكنه ارتد عن الإسلام ودخل النصرانية ثم توفى.

عندما وصلها الخبر على يد وصيفة النجاشي، فرحت فرحًا شديدًا، ووكلت الصحابي خالد بن سعيد بأمر زواجها، لأنه كان يقربها. ثم اجتمعوا في قصر النجاشي وحضر المسلمون، وقدم لها مهر قيمته 400 دينار ذهبي. ثم جهز سفينتين وحملهما بالهدايا وهاجر المسلمون برفقة أم حبيبة إلى رسول الله.

 

هل صلى الرسول على النجاشي؟

عندما علم النبي بوفاة النجاشي وكان ذلك في شهر رجب سنة 9 من الهجرة، قال للصحابة “مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة”. ويقول أبو هريرة أن النبي خرج إلى المصلى وصفهم جميعًا، ثم كبر أربع تكبيرات.

 

 

المصادر:

ابن كثير: البداية والنهاية.

ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة.

موقع إسلام ويب: إسلام النجاشي.

موقع سويدان: قصة أصحمة النجاشي ملك الحبشة.

 

الوسوم :

التعليقات

لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات مشابهة

عرض جميع المقالات