امتد تاريخ الأندلس لمدة ثمانية قرون (92-897هـ/711-1492م)، وظلت مركز إشعاع حضاري جمع بين التراث الإسلامي والمسيحي واليهودي. وأنتج هذا التفاعل الفريد واحدة من أبرز الحضارات في العصور الوسطى، كما يؤكد المؤرخ الفرنسي إفاريست ليفي بروفنسال في كتابه “تاريخ إسبانيا الإسلامية”.
الفتح الإسلامي للأندلس
بدأ تاريخ الأندلس في ربيع عام 711م، عندما عبر طارق بن زياد المضيق الذي حمل اسمه لاحقًا (جبل طارق) بجيش قوامه حوالي 7,000 مقاتل، معظمهم من البربر. وفقًا للمصادر التاريخية، اختار طارق موقعًا استراتيجيًا عند الصخرة الكبيرة (جبل طارق) ليكون قاعدة لانطلاق عملياته. كان هذا العبور بتكليف من موسى بن نصير والي إفريقية، الذي أدرك الفرصة السانحة لفتح هذه الأراضي.
التقى جيش طارق مع قوات الملك القوطي رودريك في معركة حاسمة عند وادي لكة (شبه جزيرة أيبيريا) في 28 رمضان 92هـ. تذكر المصادر التاريخية، أن المعركة استمرت ثمانية أيام وانتهت بانتصار ساحق للمسلمين. وكان لهذا الانتصار تأثير نفسي كبير، حيث فتح الطريق أمام توسع سريع في عمق الأندلس.
بعد النجاحات الأولية لطارق، عبر موسى بن نصير إلى الأندلس في يونيو 712م بجيش نظامي قوامه 18,000 جندي. وقاد بنفسه الحملات لضمان السيطرة الكاملة على المنطقة، حيث فتح مدنًا رئيسية مثل إشبيلية وماردة. وكان نهجه يعتمد على التوازن بين القوة العسكرية والتفاوض مع السكان المحليين، مما سهل عملية الانتشار الإسلامي.
أسس الفاتحون نظامًا إداريًا جديدًا جعل من الأندلس ولاية إسلامية تابعة للخلافة الأموية في دمشق. وتميزت هذه الفترة بسياسة التسامح مع أهل الذمة، مما سمح باستقرار الأوضاع وبداية عملية التعريب . وفي غضون ثلاث سنوات فقط (711-714م)، أصبح معظم شبه الجزيرة الإيبيرية تحت الحكم الإسلامي، ليبدأ فصل جديد في تاريخ المنطقة دام ثمانية قرون.
عصر الإمارة الأموية في الأندلس ( عبد الرحمن الداخل)
بعد سقوط الدولة الأموية في المشرق عام 750م، نجح الأمير عبد الرحمن بن معاوية (المعروف بعبد الرحمن الداخل أو صقر قريش) في الفرار إلى الأندلس حيث أسس إمارة أموية مستقلة عام 756م. واجه الداخل تحديات كبيرة في توحيد الأندلس تحت حكمه، واضطر لمجابهة الثورات الداخلية والقبائل المتمردة. واستطاع بحنكته السياسية والعسكرية إقامة دولة مستقرة ورثت تقاليد الخلافة الأموية في دمشق.
وشهدت الإمارة الأموية نهضة عمرانية كبيرة، كان أبرزها بناء مسجد قرطبة الجامع الذي بدأ تشييده عام 786م. وتحولت قرطبة إلى عاصمة مزدهرة تضاهي بغداد عاصمة العباسيين. تميزت هذه الفترة ببناء القصور والحدائق وتطوير نظام الري، مما ساهم في ازدهار الزراعة وزيادة الإنتاجية.
أسس الأمويون في الأندلس نظامًا إداريًا مركزيًا متطورًا، مع الحفاظ على بعض المؤسسات المحلية. واعتمدت الإمارة على ثلاثة أركان أساسية: الجيش النظامي، والبيروقراطية الإدارية، والعلاقات الدبلوماسية مع الممالك المسيحية في الشمال.
واجهت الإمارة الأموية تحديات خارجية مستمرة من الممالك المسيحية في الشمال ومن الدولة العباسية في المشرق. وواجه عبد الرحمن الداخل وخلفاءه عدة حملات عسكرية من شارلمان ملك الفرنجة. كما حافظ الأمويون على علاقات دبلوماسية مع بيزنطة والممالك الإفريقية.
بدأت في عصر الإمارة الأموية بذور النهضة العلمية التي ستصل ذروتها في عصر الخلافة. واستمرت إمارة بني أمية في الأندلس قرابة قرن ونصف، حتى أعلن عبد الرحمن الناصر نفسه خليفة عام 929م.
عصر الخلافة الأموية في الأندلس
بدأت مرحلة جديدة من تاريخ الأندلس، عندما أعلن عبد الرحمن الناصر لدين الله نفسه خليفة في 16 يناير 929م، منهيًا بذلك التبعية الرمزية للخلافة العباسية. ووفقًا لابن حيان القرطبي في كتابه “المقتبس”، جاء هذا الإعلان ردًا على ظهور الخلافة الفاطمية في شمال إفريقيا، وتتويجًا لقرن من الاستقرار السياسي. وتحولت قرطبة تحت حكمه إلى أكبر مدينة في أوروبا الغربية، حيث بلغ عدد سكانها حوالي نصف مليون نسمة.
شهد عصر الخلافة الأموية طفرة معمارية غير مسبوقة. وبنى عبد الرحمن الناصر مدينة الزهراء الفاخرة على بعد 8 كم شمال غرب قرطبة. كما تم توسيع مسجد قرطبة الكبير ليصبح ثاني أكبر مسجد في العالم الإسلامي آنذاك. وبلغت النفقات على بناء الزهراء ثلث ميزانية الدولة لمدة 25 عامًا.
أسس الخلفاء الأمويون نظامًا إداريًا مركزيًا متطورًا. وضم البلاط الأموي في قرطبة وزراء من مختلف الأعراق والأديان، بما في ذلك المسيحيون واليهود. وتم تقسيم الأندلس إلى ست ولايات رئيسية، لكل منها والٍ وقاضٍ وجباة ضرائب مستقلون. كما طور الأمويون نظامًا بريديًا متقدمًا وديوانًا للرسائل مشابهًا لنظام الدواوين في المشرق الإسلامي.
وتحولت قرطبة في عهد الخلافة الأموية إلى مركز إشعاع علمي عالمي. وضمت مكتبة الحكم المستنصر أكثر من 400 ألف مجلد، وكان يعمل فيها عشرات النساخ والمترجمين. وبرز في هذه الفترة علماء مثل الزهراوي في الطب، وعباس بن فرناس في العلوم التجريبية، وابن عبد ربه في الأدب. كما تأسست مدارس علمية متخصصة في الفقه واللغة والعلوم العقلية.
وحافظت الخلافة الأموية على علاقات دبلوماسية مع بيزنطة والممالك الأوروبية. كما ازدهرت التجارة الأندلسية حيث وصلت منتجاتها إلى أسواق أوروبا وشمال إفريقيا. وتم سك عملة ذهبية مستقرة (الدانق الأموي) كانت متداولة في جميع أنحاء البحر المتوسط.
لكن بعد وفاة الحكم الثاني عام 976م، بدأت علامات الضعف في الظهور. حيث أدى صعود الحاجب المنصور بن أبي عامر إلى إضعاف مؤسسة الخلافة. وتفاقمت الأزمات الداخلية حتى أعلن آخر الخلفاء الأمويين هشام الثالث سقوط الخلافة عام 1031م، مما فتح الباب أمام عصر ملوك الطوائف.
عصر ملوك الطوائف
بعد سقوط الخلافة الأموية في قرطبة، تفككت السلطة المركزية، وانقسمت الأندلس إلى أكثر من 20 دويلة صغيرة، يحكم كل منها زعيم محلي أو “طائفة”. وفقًا للمؤرخ ابن خلدون في كتابه “العبر”، فإن هذه الدويلات نشأت بسبب “تنازع القوى والطوائف على السلطة، وانقسام الجند والوزراء”. كانت أهم هذه الممالك: طائفة غرناطة (بني زيري)، وطائفة إشبيلية (بني عباد)، وطائفة بلنسية (بني عامر)، وطائفة سرقسطة (بني هود).
تميز عصر الطوائف بالتنافس الدائم بين الحكام، حيث تحالفت بعض الدويلات مع الممالك المسيحية مثل قشتالة ضد جيرانها المسلمين. كما كانوا يدفعون الجزية للملك ألفونسو السادس ملك قشتالة مقابل الحماية، مما أضعف هيبة المسلمين.
شهدت هذه الفترة صراعات داخلية، مثل حرب بني عباد في إشبيلية ضد بني زيري في غرناطة، والتي انتهت بسيطرة المعتمد بن عباد على جزء كبير من جنوب الأندلس. لكن هذه الصراعات استنزفت الموارد العسكرية والاقتصادية، مما جعل الأندلس ضعيفة أمام التهديدات الخارجية.
ورغم الاضطرابات السياسية، شهد عصر الطوائف نهضة ثقافية وعمرانية. فقد ازدهرت العلوم والفنون، حيث أصبحت كل طائفة تنافس الأخرى في جذب العلماء والشعراء. ويذكر المؤرخون أن بلاط بني عباد في إشبيلية كان منارة للأدب، حيث عاش الشاعر ابن زيدون وابن عمار.
عصر المرابطين في الأندلس
لم يستمر عصر الطوائف طويلًا، إذ أدت الصراعات الداخلية والضغوط المسيحية إلى طلب بعض الحكام المسلمين النجدة من المرابطين في المغرب. ففي معركة الزلاقة عام 1086 م، هزم يوسف بن تاشفين جيوش ألفونسو السادس، لكنه قرر لاحقًا توحيد الأندلس تحت حكم المرابطين، فقضى على ملوك الطوائف واحدًا تلو الآخر. بحلول عام 1091 م، سقطت معظم ممالك الطوائف، وانتهت بذلك فترة من أبرز فترات تاريخ الأندلس.
حافظ المرابطون على نظام حكم مركزي، حيث عينوا ولاة على المدن الكبرى مثل إشبيلية وغرناطة وقرطبة، وفرضوا النظام المالكي الصارم في القضاء. كما اهتموا بتقوية الجيش، حيث اعتمدوا على القبائل الصنهاجية في المغرب، بالإضافة إلى الجنود الأندلسيين.
وحققت الجيوش المرابطية انتصارات مهمة في بداية حكمهم، مثل استعادة بلنسية عام 1102 م، لكنهم واجهوا تحديات كبيرة بعد وفاة يوسف بن تاشفين عام 1106 م. ففي عهد علي بن يوسف، تعرضوا لهزائم أمام المسيحيين، مثل سقوط سرقسطة عام 1118 م، مما أضعف هيبتهم.
ومع ذلك، ازدهرت العمارة الإسلامية في عهدهم، مثل بناء مسجد تينمل في المغرب وتوسعة المساجد في الأندلس. كما شهدت هذه الفترة ظهور فقهاء مثل القاضي عياض، صاحب كتاب “الشفا”.
لكن بدأت دولة المرابطين في الانهيار بسبب الثورات الداخلية في المغرب والأندلس، حيث انتفض الموحدون بقيادة محمد بن تومرت. وفي عام 1147 م، سقطت عاصمتهم مراكش في يد الموحدين، لينتهي بذلك حكمهم في الأندلس بعد ما يقارب 60 عامًا.
دولة الموحدين في الأندلس
بدأت حركة الموحدين في جبال الأطلس المغربي بقيادة المهدي بن تومرت، الذي دعا إلى تجديد الدين ومحاربة الانحرافات العقدية. بعد وفاته، تولى تلميذه عبد المؤمن بن علي زمام الأمور، وقام بغزو مراكش عام 1147 م، منهيًا حكم المرابطين. ثم توجه إلى الأندلس ووحد المناطق الإسلامية تحت سلطته.
أسس الموحدون دولة مركزية قوية، حيث عينوا ولاة على الأقاليم الكبرى مثل إشبيلية وقرطبة وغرناطة. كما اهتموا بتقوية الجيش، فاستعانوا بقبائل المغرب والأندلس، وشكلوا جيشًا نظاميًا مدعومًا بالأساطيل البحرية.
واجه الموحدون تهديدًا متصاعدًا من الممالك المسيحية، خاصة بعد توحيد قشتالة وأراغون تحت راية الفونسو الثامن. وبلغ الصراع ذروته في معركة الأرك (1195 م)، حيث انتصر الموحدون بقيادة أبو يوسف يعقوب المنصور، لكنهم لم يستثمروا هذا النصر لاستعادة الأراضي المفقودة. ثم جاءت معركة العقاب (1212 م)، التي شكلت نقطة تحول كبرى، حيث هُزم الجيش الموحدي هزيمة ساحقة أمام تحالف مسيحي كبير.
بدأت الدولة في الانهيار بعد هزيمة العقاب، حيث تفككت الوحدة السياسية والعسكرية. كما أدت الصراعات الداخلية بين أمراء الموحدين إلى ضعف السلطة المركزية. وفي النهاية، سقطت المدن الكبرى الواحدة تلو الأخرى، حيث فقد الموحدون قرطبة (1236 م)، ثم إشبيلية (1248 م)، ولم يبقَ تحت حكم المسلمين سوى مملكة غرناطة التي حكمها بنو نصر حتى عام 1492 م.
مملكة غرناطة (تاريخ الأندلس)
بعد انهيار دولة الموحدين، استغل ابن الأحمر الفوضى السياسية وأعلن تأسيس إمارة غرناطة عام 1238م. واختار موقعًا دفاعيًا ممتازًا عند سفح جبال سييرا نيفادا، حيث بنى قصره الشهير الحمراء. واتبعت المملكة نظامًا ملكيًا وراثيًا، حيث تعاقب على حكمها 22 سلطانًا من بني نصر. تميز حكامها الأوائل مثل محمد الثاني ويوسف الأول بالحكمة، حيث وازنوا بين دفع الجزية للممالك المسيحية والمحافظة على الاستقلال الذاتي.
شهدت غرناطة نهضة عمرانية وفنية غير مسبوقة:
قصر الحمراء: تحفة معمارية جمعت بين الفن الإسلامي والطبيعة.
حي البيازين: مركز الحياة الثقافية والتجارية.
مدرسة غرناطة: التي خرّجت علماء مثل ابن زمرك وابن الخطيب.
ويصف أحمد بن محمد المقري التلمساني في “أزهار الرياض” كيف أن “غرناطة كانت جنة الأرض، تزهر بالعلماء والشعراء كما تزهر جناتها بالزيتون والرياحين”.
سقوط الأندلس
بدأت مقدمات السقوط الحقيقي بعد معركة العقاب عام 1212م، التي أضعفت بشكل حاسم قوة المسلمين في الأندلس. على مدار القرنين التاليين، تقلصت الأراضي الإسلامية تدريجيًا تحت ضغط الممالك المسيحية الشمالية، حتى لم يبق سوى مملكة غرناطة.
وفي عام 1491م، حاصرت قوات الملكين الكاثوليكيين فرناندو وإيزابيلا مدينة غرناطة. واستمر الحصار ثمانية أشهر، وانتهى بتوقيع معاهدة الاستسلام في 25 نوفمبر 1491م. وتنص وثائق الأرشيف الوطني الإسباني على أن أبو عبد الله الصغير سلم المدينة رسميًا في 2 يناير 1492م. منهيًا بذلك الوجود السياسي الإسلامي في شبه الجزيرة الأيبيرية.
بعد سقوط غرناطة، عاش المسلمون، لذين أصبحوا يُعرفون بـ”الموريسكيين”، تحت حكم جديد ينتهك حقوقهم رغم ضمانات معاهدة التسليم. اضطروا إلى اعتناق المسيحية ظاهرًا بينما حافظوا سرًا على عقيدتهم. وأنشأت إسبانيا محاكم التفتيش عام 1480م لمراقبتهم، حيث تعرض آلاف منهم للتعذيب والإعدام.
وبلغ الاضطهاد ذروته عندما أصدر الملك فيليب الثالث مرسوم الطرد العام عام 1609م. حيث نُفي حوالي 300 ألف موريسكي إلى شمال إفريقيا في عملية تطهير ديني مروعة. وتحولت مساجدهم إلى كنائس، وأُحرقت مكتباتهم، وضاعت حضارة عمرها ثمانية قرون.
اقرأ أيضًا: أبناء الحسن بن علي
المصادر
حسين مؤنس: في معالم تاريخ المغرب والأندلس.
ابن قوطية: تاريخ افتتاح الأندلس.
ابن حيان القرطبي: المقتبس.
ليفي بروفنسال: تاريخ إسبانيا الإسلامية.
ابن خلدون: كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر.
ماريا روزا مينوكال: زهرة العالم.
ابن بسام: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة.
ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب.
التعليقات
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!
اترك تعليق