كانت هناك ثلاث محاولات لـ “حصار القسطنطينية في العصر الأموي”، باءت جميعها بالفشل رغم الجهد الكبير الذي بذله الخلفاء الأمويين. كانت هذه المدينة عاصمة البيزنطيين اللذين طردهم المسلمون من بلاد الشام ومصر وإفريقية. وكما تخلص المسلمون من الفرس بعد دخول المدائن، كانت هناك رغبة شديدة لدخول القسطنطينية للتخلص من البيزنطيين للأبد. لكن صمدت هذه المدينة في وجه أقسى أنواع الحصار، بفضل أسوارها المنيعة والحصينة التي هزمت أعظم الجيوش. وظلت صامدة حتى جاء العثمانيون وفتوحها بقيادة السلطان العظيم محمد الفاتح.
حصار القسطنطينية في العصر الأموي ( المرة الأولى)
سنة 49 هـ، أرسل معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية، أول حملة لفتح القسطنطينية بقيادة سفيان بن عوف. توغل الجيش في الأناضول وفتح جميع الحصون والقلاع في طريقه حتى وصل بحر مرمرة. ثم أرسل معاوية المدد إلى الحملة، بقيادة ابنه يزيد وبرفقته عدد كبير من الصحابة وأبنائهم، مثل عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وأبو أيوب الأنصاري.
اقتتل المسلمون مع الروم، وحاولوا اقتحام الأسوار لكنهم فشلوا لأسباب كثيرة. كان الشتاء قاسيًا على الجنود، وقلت المؤون والأطعمة، وتفشى المرض أيضًا. وخلال الحصار استشهد عدد كبير من الصحابة على رأسهم أبا أيوب الأنصاري.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم، قد تنبأ بهذه الحملة، وقال “أول جيش من أمتي يركبون البحر قد أوجبوا، وأول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم”.
الحصار الثاني عام 54 هـ
استفاد معاوية بن أبي سفيان من فشل هذه الحملة، ورأى أن القسطنطينية تحيط بها المياه من ثلاث جهات. لذلك جهز الأسطول البحري بشكل جيد، وأعاد فتح الجزر في البحر المتوسط وأولهم جزيرة أرادو التي جعل منها قاعدة عسكرية للجيش.
وفي عام 54 من الهجرة، خرجت الحملة من جزيرة أرادو بقيادة جنادة بن أمية الأزدي. فرض المسلمون الحصار على القسطنطينية من إبريل إلى سبتمبر، ثم عادوا إلى الجزيرة في الشتاء. وفي الصيف فرضوا الحصار مرة ثانية، وظلوا على هذا الوضع لمدة 7 سنوات. وعندما لم يصل الجيش لأي نتيجة، قرر معاوية بن أبي سفيان فك الحصار. ثم عقد معاهدة صلح مع الامبراطور قسطنطين الرابع، مدتها 30 سنة.
كانت خسائر المسلمين في هذه الحملة فادحة، فقد استشهد تقريبًا 30 ألف جندي، وتضررت معظم سفن الأسطول. وبعد وفاة معاوية بدأت الاضطرابات الداخلية، بسبب الصراع على الخلافة بين بني أمية وعبد الله بن الزبير. انشغل المسلمون بحروبهم الداخلية لفترة طويلة، ثم بدأت تستقر الأمور في عهد الوليد بن عبد الملك، وبدأت الفتوحات من جديد. هتم الوليد بفتوحات بلاد السند وما وراء النهر وبلاد الأندلس. وفي عام 89 هـ، نجح في فتح عمورية وهرقلية، وبدأ التجهيز لفتح القسطنطينية.
الحصار الأخير بقيادة مسلمة بن عبد الملك
خطط سليمان بن عبد الملك لغزو القسطنطينية، فبدأ في استشارة من حوله. وقيل أنه استشار موسى بن نصير في الأمر، فاقترح عليه أن يفتح أولًا المدن والحصون التي تقع على الطريق إلى هذه المدينة، حتى تضعف ويسهل فتحها. ثم استشار أخيه مسلمة بن عبد الملك، فاقترح عليه حصار القسطنطينية أولًا، فإذا أتم الله فتحها، فكل المدن ستفتح تباعًا.
أخذ سليمان برأي أخيه مسلمة، ثم بدأ يجهز الجيش فجمع 120 ألف مقاتل من الشام وسوريا والموصل. وأرسل أهل مصر وأفريقية ألف مركب عليهم عمر بن هبيرة. وخرج الجيش وعلى رأسه مسلمة بن عبد الملك، ومعه داوود بن سليمان بن عبد الملك، وكان ذلك عام 97 هـ.
وصل مسلمة بالجيش الإسلامي إلى القسطنطينية وفرض عليها الحصار. ثم وصل الأسطول الإسلامي وعبر مضيق الدردنيل، وكان ذلك خلال فصل الصيف. نجح مسلمة في عزل القسطنطينية تمامًا عن المدن والبلاد المحيطة. واعتمد على الأسطول البحري في غلق مضيق البسفور، وقطع أي صلة بين العاصمة البيزنطية والبحر الأسود. لكن انحرف الأسطول من مكانه بسبب الرياح، ثم هاجمه البيزنطيون بالنار الإغريقية. وذُكِر أيضًا أن البيزنطيين استخدموا سلسلة كبيرة بين المدينة وغلطة لغلق مدخل القرن الذهبي.
وبالنسبة للجيش البري، فقد كان مجهزًا بشكل جيد، حتى تراكمت الإمدادات داخله. ونصب مسلمة بن عبد الملك المنجنيق على المدينة، لكن أسوار القسطنطينية صمدت بفضل قوتها ومناعتها.
فشل الحصار الثالث
مع دخول فصل الشتاء انقلبت الأمور، وغطت الثلوج الأرض لأكثر من 3 أشهر. ومع الوقت نقصت الإمدادات، وتعرض الجنود لمجاعة جعلتهم يأكلون الخيول والجمال وحتى أوراق الشجر. ومات في هذه المجاعة أعداد مهولة من الجنود، وتبالغ المصادر الغربية في الرقم، فبعضها قال هلك 300 ألف جندي مسلم.
ولم يستطيع الأسطول تطويق الجهة الشمالية للعاصمة، لذلك عبرت إليها المساعدات والمؤن من البحر الأسود. ثم تعرض مسلمة للخديعة، حيث اتفق الإمبراطور الرومي ليو الثالث الإيساوري مع البلغار. فأرسل البلغار إلى مسلمة يعرضون عليه المساعدة وتقديم المؤون. أرسل مسلمة من يتسلم هذه المؤون، لكنه كان كمينًا، وقُتِل فيه عدد كبير من الجنود، وصل إلى 15 ألف جندي، حسب المصادر اليونانية.
أرسل مسلمة إلى أخيه سليمان وأخبره بالأمر، فأرسل له جيشًا بقيادة شرحبيل بن عبيدة. عبر هذا الجيش إلى بلاد البرجان أولًا، واقتصوا من ملكهم وقتلوا منهم أعدادًا كبيرة، وخلصوا أسرى المسلمين. كما وصلت الإمدادات من مصر وإفريقية، لكن كل ذلك لم يغير مجريات الأمور. وظلت أسوار القسطنطينية عصية على الغزاة والفاتحين لقرون طويلة، وتراجع المسلمون.
لما مات سليمان بن عبد الملك، تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة، وأرسل كتابًا إلى مسلمة يأمره بالعودة. عاد الجيش الإسلامي إلى دمشق في ذي الحجة عام 99 من الهجرة.
انتهى العصر الأموي، ولم تكن هناك محاولة رابعة لغزو القسطنطينية. لكن بعد 7 قرون يأتي العثمانيون ويفتحون هذه المدينة على يد السلطان محمد الفاتح عام 857 هـ.
المصادر:
علي الصلابي: الدولة الأموية، عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار.
الطبري: تاريخ الرسل والملوك.
ابن كثير: البداية والنهاية.
ابن الأثير: الكامل في التاريخ.
موقع قصة الإسلام: حصار القسطنطينية في عصر الدولة الأموية.
التعليقات
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!
اترك تعليق