شكّلت دولة الموحدين في الأندلس مرحلة حاسمة في تاريخ الغرب الإسلامي، حيث مثلت آخر قوة إسلامية كبرى حكمت الأندلس والمغرب في آن واحد. ظهرت هذه الدولة على أنقاض دولة المرابطين، محققة وحدة سياسية ودينية نادرة تحت راية المهدي بن تومرت ثم خليفته عبد المؤمن بن علي. وقد وصف المؤرخ ابن خلدون في “العبر” هذه الدولة بأنها “آخر الممالك الإسلامية العظيمة في المغرب والأندلس”.
نشأة دولة الموحدين
قبل ظهور الموحدين، كانت المنطقة تحت حكم المرابطين، الذين بدأوا بالضعف بسبب التحديات التي واجهوها. في هذا السياق، ظهر محمد بن تومرت (المتوفى 524هـ / 1130م)، وهو عالم ديني من قبيلة مصمودة في المغرب، ادّعى المهدوية ودعا إلى تجديد الدين ومحاربة البدع.
أسس ابن تومرت حركته في تينملل (جبال الأطلس الكبير)، وتبنى أفكارًا إصلاحية مستندة إلى المذهب الأشعري والفقه الظاهري، مع التركيز على التوحيد الصارم، ومن هنا جاءت تسمية أتباعه بـ”الموحدين”. بعد وفاته، خلفه عبد المؤمن بن علي الكومي، الذي حوّل الحركة إلى دولة قوية.
استغل الموحدون ضعف المرابطين، فاستولوا على مراكش عاصمتهم سنة 541هـ / 1147م، ثم وحدوا المغرب تحت حكمهم. وبعد توطيد حكمهم في المغرب، توجهوا إلى الأندلس، حيث كانت دويلات الطوائف تعاني من التشرذم وتقدم الممالك المسيحية (قشتالة، أراغون، ليون).
في تلك الفترة، كانت مملكة قشتالة تحت حكم ألفونسو الثامن تشكل تهديدًا كبيرًا للمسلمين، خاصة بعد استيلائها على عدة مدن أندلسية. عندما استطاع ألفونسو الثامن احتلال قلعة الأرك، قرر الخليفة الموحدي يعقوب المنصور الرد بقوة، فجهز جيشًا ضخمًا من المغرب والأندلس، وتحرك لمواجهة الجيش القشتالي في معركة فاصلة.
معركة الأرك
قاد الخليفة يعقوب المنصور جيشًا قويًا، ضم جنودًا من مختلف أنحاء المغرب والأندلس، بالإضافة إلى فرسان قبائل المصامدة وقوات الأندلسيين. واعتمد الموحدون على تنظيم عسكري دقيق، حيث ضم الجيش:
المشاة المدججين بالسيوف والتروس.
الفرسان المغاربة والأندلسيين.
الرماة المهرة.
وحدات من المجانيق والأسلحة الثقيلة.
ومن جهته، جمع ألفونسو الثامن جيشًا كبيرًا، ضم جنودًا من قشتالة، بالإضافة إلى متطوعين من مملكتي ليون ونافار، وكذلك فرسان من أوروبا الذين قدموا لدعم المسيحيين في حربهم ضد المسلمين. كان الجيش القشتالي يعتمد بشكل كبير على الفرسان الثقيلين، الذين كانوا عماد الجيوش الأوروبية في ذلك الوقت.
وفي يوم 9 شعبان 591هـ / 18 يوليو 1195م، التقي الجيشان قرب قلعة الأرك. بدأ القشتاليون الهجوم بفرسانهم الثقيلين، محاولين تفكيك صفوف المسلمين، لكن الخليفة يعقوب المنصور استخدم تكتيكًا عسكريًا بارعًا، حيث سمح للفرسان المسيحيين بالتقدم ثم حاصرهم بقواته من الأجنحة.
استغل الموحدون تفوقهم العددي والتنظيمي، فاشتبكوا مع القشتاليين في قتال شرس، وتمكنوا من إبادة جزء كبير من جيش ألفونسو الثامن. وفقًا للمؤرخ ابن خلدون، فقد قُتل عدد كبير من الفرسان النبلاء القشتاليين، بينما نجا ألفونسو الثامن نفسه بصعوبة بعد أن فقد معظم جيشه.
وبفضل هذا الانتصار العظيم، تراجع الضغط المسيحي على الثغور الإسلامية لأكثر من عقدين، وتمكن الموحدون من استعادة عدة حصون حدودية. وعزز هذا النصر مكانة الدولة الموحدية كقوة كبرى في غرب المتوسط، حيث اضطرت الممالك المسيحية إلى طلب الهدنة ودفع الجزية. كما أعاد الانتصار الثقة للمسلمين في الأندلس بعد سنوات من التراجع.
مظاهر الازدهار خلال عصر دولة الموحدين في الأندلس
شهدت الأندلس في عصر دولة الموحدين، نهضة حضارية وعمرانية وعلمية لافتة، تمثلت في عدة مظاهر بارزة. في الجانب العمراني، ترك الموحدون إرثًا معماريًا رائعًا تمثل في مسجد إشبيلية الكبير الذي لا تزال منارته (الخيرالدا) شامخة حتى اليوم، ومسجد الكتبية في مراكش، وقصور إشبيلية وحصونها المنيعة. كما طور الموحدون نظام الري الزراعي وبنوا القنوات المائية، مما ساهم في ازدهار الزراعة وزيادة الإنتاج.
وفي المجال العلمي، شهدت الأندلس في العهد الموحدي حركة علمية نشطة، حيث ازدهرت الفلسفة مع ابن رشد وابن طفيل، وتقدمت الدراسات الطبية مع ابن زهر، وظهرت مؤلفات مهمة في الفلك والرياضيات. كما اهتم الموحدون بإنشاء المكتبات ودعم العلماء، مما جعل مدن مثل إشبيلية وقرطبة مراكز إشعاع فكري.
اقتصاديًا، حققت الدولة الموحدين ازدهارًا ملحوظًا من خلال تطوير الصناعات الحرفية كالنسيج والخزف، وتنشيط التجارة البحرية عبر موانئ الأندلس والمغرب.
نهاية دولة الموحدين في الأندلس
شهدت دولة الموحدين في الأندلس تراجعًا متدرجًا خلال النصف الأول من القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي). حيث مثلت معركة العقاب (609هـ/1212م) نقطة التحول الحاسمة في مسار الدولة. هذه الهزيمة الساحقة أمام التحالف المسيحي المكون من قشتالة وأراغون ونافارا، أسفرت عن خسائر بشرية ومادية جسيمة، وأفقدت الدولة هيبتها العسكرية.
بعد معركة العقاب، تفاقمت الأزمات الداخلية للدولة الموحدية، حيث تعاقب على الحكم خلفاء ضعاف لم يتمكنوا من مواجهة التحديات. كما يشير ابن خلدون في “العبر” إلى أن الصراعات على السلطة بين أمراء الموحدين واستقلال بعض الولاة ساهم في تفكك الدولة. وفي الأندلس تحديدًا، بدأت المدن الكبرى تسقط الواحدة تلو الأخرى. حيث فقدت قرطبة عام 633هـ/1236م، ثم إشبيلية عام 646هـ/1248م. وانحصرت السلطة الإسلامية في غرناطة حيث قامت دولة بني الأحمر.
من العوامل الأساسية في سقوط الموحدين بالأندلس، تصاعد قوة الممالك المسيحية وتوحدها. كما أن التمردات الداخلية في المغرب، خاصة صعود بني مرين، شتتت جهود الموحدين وأضعفت قدراتهم على حماية الأندلس. وقد أدت هذه العوامل مجتمعة إلى انهيار النفوذ الموحدي في الأندلس بشكل كامل بحلول منتصف القرن السابع الهجري.
كان لسقوط دولة الموحدين في الأندلس تداعيات بعيدة المدى. حيث مثل نهاية الحكم الإسلامي الموحد لمعظم أراضي الأندلس. ولم يبق سوى مملكة غرناطة التي استمرت حتى نهاية القرن التاسع الهجري. كما يشير المؤرخ حسين مؤنس إلى أن هذه النهاية أثرت على التوازن الاستراتيجي في غرب البحر المتوسط. حيث بدأت مرحلة جديدة من الهيمنة المسيحية على أيبيريا.
المصادر:
عبد الواحد المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب.
ابن خلدون: كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر.
محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس.
حسين مؤنس: تاريخ المغرب والأندلس.
ليفي بروفنسال: تاريخ إسبانيا الإسلامي.
التعليقات
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!
اترك تعليق