زبيدة بنت جعفر هي واحدة من أشهر النساء في التاريخ الإسلامي، ليس فقط لأنها زوجة الخليفة العباسي هارون الرشيد، ولكن أيضًا بسبب إنجازاتها الخيرية والعمرانية التي تركت أثرًا باقيًا حتى اليوم. اشتهرت بكرمها وحكمتها، وكانت شخصية مؤثرة في بلاط الخلافة العباسية.
نسبها
تنحدر زبيدة من سلالة الخلفاء العباسيين، حيث تُعتبر حفيدة الخليفة المؤسس أبو جعفر المنصور ثاني خلفاء الدولة العباسية. والدها هو جعفر بن المنصور، الذي كان أحد أبرز أبناء الخليفة المنصور. بينما كانت أمها جارية تُدعى سلامة، اشتهرت بالحكمة والفصاحة، مما أثرى شخصية زبيدة بالأدب والبلاغة.
يذكر المؤرخ الطبري في كتابه تاريخ الرسل والملوك أن نسبها العباسي المشرّف منحها مكانة رفيعة في القصر. حيث كانت تُعامل معاملة الأميرات منذ صغرها. كما أكد ابن الأثير في الكامل في التاريخ أن زبيدة تربّت في بيئة علمية وأدبية. حيث كانت مجالس أبيها وجدها تضم كبار العلماء والشعراء، مما ساهم في صقل مواهبها.
نشأتها
وُلدت زبيدة بنت جعفر في بغداد، عاصمة الدولة العباسية، حوالي عام 145 هـ / 762 م. في فترة كانت فيها الخلافة العباسية في أوج ازدهارها. نشأت في قصر الخلافة الذي كان مركزًا للعلم والثقافة، حيث تلقت تعليمًا راقيًا شمل القرآن الكريم، والشعر، والفقه، والحديث النبوي.
كانت زبيدة معروفة بحبها للأدب، حتى إنها كانت تنظم الشعر، وتجيد الخطابة، مما جعلها تبرز بين نساء عصرها. وقد ذكر المؤرخ المسعودي في مروج الذهب أن زبيدة كانت “ذات عقل راجح وفصاحة نادرة”، مما جعلها محط إعجاب الجميع في البلاط العباسي.
ترعرعت زبيدة في عصر شهد تحولات كبرى في الدولة العباسية. حيث كان جدها المنصور يؤسس لبغداد كعاصمة للعالم الإسلامي، بينما كان أبوها جعفر من المقربين إلى الخليفة المهدي. وقد عاصرت صراعات داخل الأسرة الحاكمة، لكنها تميزت بحنكتها السياسية. مما ساعدها لاحقًا في لعب دور مؤثر في عهد زوجها هارون الرشيد.
يذكر ابن خلدون في العبر وديوان المبتدأ والخبر أن زبيدة نشأت في جو من الترف والعلم، لكنها لم تنغمس في الترف وحده، بل اهتمت أيضًا بالشؤون العامة. حيث كانت تتابع أحوال الرعية وتستمع إلى شكاوى المحتاجين. وهذا ما جعلها لاحقًا تكرس جزءً كبيرًا من ثروتها لأعمال البر والإحسان.
زواج زبيدة بنت جعفر من هارون الرشيد
كان زواج زبيدة من هارون الرشيد حدثًا بارزًا في حياتها، حيث جمع بين اثنين من أبرز شخصيات الأسرة العباسية. تزوجها الرشيد في عهد والده الخليفة المهدي حوالي عام 165 هـ / 781 م. وكان هذا الزواج تعزيزًا للروابط العائلية داخل البيت العباسي.
أثبتت زبيدة أنها شريكة حقيقية للرشيد، حيث كانت تقدم له المشورة في أمور الدولة، وتدعمه في قراراته. وقد أشار الطبري إلى أن هارون الرشيد كان يثق برأيها ويحترم حكمتها، مما جعلها شخصية مؤثرة في القصر. ورغم أن الرشيد تزوج بعدة نساء، إلا أن زبيدة بقيت الزوجة الرئيسية والأم لولده الأمين، الذي أصبح خليفة بعد وفاة أبيه.
إنجازاتها الخيرية والعمرانية
اشتهرت زبيدة بأعمالها الخيرية، ومن أبرز مشاريعها:
مشروع عين زبيدة في مكة
قامت بتمويل حفر قناة مائية ضخمة لتوصيل المياه إلى مكة المكرمة من عيون الوادي، عُرفت بـ عين زبيدة. وذكر ابن الأثير في الكامل في التاريخ أن هذا المشروع كلف مبالغ طائلة، حيث استخدمت فيه الخزائن الخاصة لزبيدة. واستمر هذا المشروع لسنوات، وكان له أثر كبير في حل مشكلة العطش للحجاج وسكان مكة.
بناء المساجد والربطات
ساهمت زبيدة في بناء المساجد وتشييد الربطات (دور الضيافة) للحجاج على طريق الحج بين بغداد ومكة. وأقامت العديد من الآبار والبرك على طول طريق الحجاج لتوفير الماء.
الأعمال الخيرية في بغداد
كانت زبيدة زوجة هارون الرشيد تنفق بسخاء على الفقراء والمحتاجين، وتوزع الصدقات في المناسبات الدينية. كما أسست بيوتًا للأيتام وقدمت الدعم للعلماء والأدباء.
دور زبيدة بنت جعفر السياسي في عصر هارون الرشيد
تشير المصادر التاريخية إلى أن زبيدة كانت تتمتع بمكانة خاصة عند هارون الرشيد، حيث كان يستشيرها في العديد من شؤون الحكم. يذكر الطبري في “تاريخ الرسل والملوك” أن الخليفة كان يثق برأيها في القضايا المصيرية، نظرًا لحكمتها وفطنتها السياسية. وكانت زبيدة تقدم له النصح في تعيين الولاة والعمال، حيث كانت تدرك أهمية اختيار الأشخاص الأكفاء لإدارة أقاليم الدولة المترامية الأطراف.
وقد برز دورها السياسي بشكل خاص في علاقات الدولة الخارجية. حيث كانت تشارك في استقبال الوفود الأجنبية وتبادل الهدايا الدبلوماسية مع حكام الدول المجاورة. يروي المسعودي في “مروج الذهب” أن زبيدة كانت ترعى حفلات الاستقبال الرسمية في القصر العباسي. مما يعكس مكانتها كشخصية رسمية في الدولة وليس فقط كزوجة للخليفة.
وعندما كان هارون الرشيد يغيب عن بغداد في حملاته العسكرية أو رحلاته، كانت زبيدة تتولى إدارة العديد من شؤون العاصمة. تشير المصادر إلى أنها كانت ترأس مجالس الشكاوى، وتستمع إلى مظالم الرعية، وتصدر التوجيهات للولاة والقضاة. وقد امتلكت صلاحيات واسعة في هذا الشأن، حيث كانت توكل إليها مهمة الإشراف على بعض الدواوين المهمة.
ويذكر ابن خلدون في “العبر” أن زبيدة كانت تتدخل أحيانًا في تعيين وعزل بعض المسؤولين. خاصة في المناصب المتعلقة بشؤون النساء والأوقاف. وكانت قراراتها تحظى باحترام كبير في أروقة الحكم، نظرًا لما كانت تتمتع به من حكمة وحسن تدبير.
دورها في صراع الأمين والمأمون
كان لزبيدة دور محوري في ترتيب مسألة ولاية العهد التي شغلت الدولة العباسية طويلًا. فقد حرصت على أن يكون ابنها الأمين هو الخليفة من بعد أبيه، مما دفعها للعمل الدؤوب لضمان ذلك. يذكر ابن الأثير في “الكامل في التاريخ” أن زبيدة كانت وراء عقد “اتفاقية الرقة” الشهيرة عام 186هـ/802م، والتي نصت على تولي الأمين ثم المأمون للخلافة بالترتيب.
لكن المصادر تذكر أيضًا أن زبيدة عملت لاحقًا على تقوية مركز ابنها الأمين على حساب أخيه المأمون، مما ساهم في إذكاء نار الفتنة بين الأخوين. وقد تجلى نفوذها السياسي في هذه الفترة من خلال تحالفاتها مع كبار القادة والوزراء مثل الفضل بن الربيع، الذي كان من أبرز مؤيدي الأمين.
وبعد وفاة هارون الرشيد، برز دور زبيدة بشكل أكثر وضوحًا في الصراع الدامي بين الأمين والمأمون. وتحولت من دور المستشارة إلى اللاعب السياسي الرئيسي في الدفاع عن حق ابنها في الخلافة. يذكر الطبري تفاصيل دقيقة عن اجتماعاتها مع القادة العسكريين وكبار رجال الدولة لتنظيم الدفاع عن بغداد أثناء حصار المأمون لها.
لكن المصادر تتفق على أن زبيدة، رغم حزنها الشديد على مقتل الأمين عام 198هـ/813م، أظهرت حكمة بالغة في تعاملها مع المأمون بعد انتصاره. فقد قبلت بالأمر الواقع، وحافظت على مكانتها في القصر. بل واستمرت في تقديم المشورة للخليفة الجديد في بعض الشؤون، مما يدل على عمق فهمها للسياسة وفنون إدارة الأزمات.
وفاة زبيدة بنت جعفر
توفيت زبيدة بنت جعفر في بغداد عام 216 هـ / 831 م، عن عمر يناهز 70 عامًا. وترك إرثها الخيري أثرًا عميقًا في التاريخ الإسلامي، حيث بقيت أعمالها مثل عين زبيدة تُذكر لقرون.
لم تكن زبيدة مجرد زوجة للخليفة هارون الرشيد، بل كانت شخصية مستقلة ذات تأثير كبير في مجالات السياسة والعمارة والعمل الخيري. تُعدّ من أكثر النساء تميزًا في العصر العباسي، حيث جمعت بين القوة والكرم والحكمة، مما جعل اسمها خالدًا في صفحات التاريخ.
اقرأ أيضًا: حفصة بنت عمر رضي الله عنها
المصادر:
الطبري: تاريخ الأمم والملوك.
ابن الأثير: الكامل في التاريخ.
المسعودي: مروج الذهب.
ابن خلدون: ديوان العبر في المبتدأ والخبر.
التعليقات
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!
اترك تعليق