كان فتح المدائن عاصمة الفرس في عهد عمر بن الخطاب. لكن فتوحات فارس كانت قد بدأت منذ عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حيث نجح في فتح عدد من المدن العراقية مثل الأنبار والحيرة. وكان المثنى بن حارثة من بدأ الجهاد في العراق، ثم لحق به سيف الله المسلول خالد بن الوليد، وعياض بن غنم، بعد سيطرتهم على المرتدين في الجزيرة العربية. حقق خالد الكثير من الانتصارات على الفرس في سواد العراق وهزمهم في معركة ذات السلاسل والولجة ومعركة الفراض، وكان له الفضل في فتح المدن العراقية.

وبعد وفاة أبي بكر، استكمل عمر بن الخطاب الفتوحات وانتصر المسلمون على الفرس في كل المعارك مثل معركة النمارق والبويب والقادسية، ولم يهزموا سوى في معركة الجسر.

 

سبب فتح المدائن

بعدما انتصر المسلمون في معركة القادسية في 16 شعبان سنة 15 من الهجرة، هرب الفرس في اتجاه المدائن وتحصنوا بها. وكانت ملاحقتهم خطوة طبيعية للتخلص من خطرهم وحماية الحدود الشرقية للدولة الإسلامية. وبعد وصول أنباء انتصارات الجيش على الفرس إلى المدينة المنورة والجزيرة العربية، خرج آلاف المتطوعين الذين يرغبون في قتال الفرس. لقد شجعت الانتصارات الناس بعد خوفهم ورهبتهم الشديدة من الدولة الفارسية. ووصل عدد جيش المسلمين إلى 60 ألف جندي، وهذا العدد أكبر مرتين من عدد المسلمين في معركة اليرموك.

 

الطريق إلى فتح المدائن

بعد هروب الفرس من القادسية، أرسل سعد بن أبي وقاص خلفهم زهرة بن الحوَّية التميمي. حاصر زهرة المدائن الغربية وهي منطقة معروفة باسم بهرسير أو نهرشير، ونجح في الحصول على الصلح مقابل الجزية. ثم لحق به سيدنا سعد، ووجد جنودًا من الفرس يعرفون بجند بوران، وكان معهم أسد كبير يسمى ” المقرط”. قتل هاشم بن عتبة الأسد، وانقض المسلمون على الفرس وهزموهم، ثم نزلوا في نهرشير في شهر ذي الحجة سنة 15 من الهجرة.

بدأ سعد يرسل السرايا في كل مكان طلبًا للجند من الفرس، لكنه لم يجد سوى الفلاحين، فجمع منهم 100 ألف. ثم أرسل إلى خليفة المسلمين عمر بن الخطاب يستفته في أمرهم، فقال له عمر “إن من كان من الفلاحين لم يعن عليكم وهو مقيم ببلده فهو أمانة، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به”. لذلك ترك سعد الفلاحين، ثم عرض عليهم الدخول في الإسلام أو دفع الجزية، فاختاروا الجزية.

شدد المسلمون الحصار على نهرشير لمدة شهرين، واقترح الجنود الفرس المسلمون صناعة سلاح المنجنيق لضرب أسوار المدينة. وبالفعل نجح المسلمون في صناعته وضربوا الأسوار بالحجارة، ولما زاد الضغط عليهم طلبوا الاستسلام. ولكن كان للفرس شرط وهو أن يكون للمسلمين كل الأراضي غرب نهر دجلة، ولهم شرق النهر. رفض المسلمون هذا العرض، لأن رغبتهم الحقيقية هي نشر الإسلام في كل مكان، وليس التوقف عند نقطة معينة.

استكمل المسلمون في حصار وضرب نهرشير بالمنجنيق والسهام، فتسلل الفرس ليلًا وهربوا منها. لم يعلم المسلمون بهروبهم إلا بعد خروج رجل وإعلانه الاستسلام، فأخبرهم أن المدينة خالية من أي دفاع. لذلك اقتحم الجنود المدينة في صفر سنة 16 من الهجرة، ووجدوا بها كميات كبيرة من العتاد والسلاح، فغنموا كل ما فيها.

 

تحقيق وعد النبي

زحف المسلمون حتى وصلوا إلى الشاطئ الغربي لنهر دجلة، وعندما نظروا إلى الجهة الأخرى رأوا إيوان كسرى. كان قصر كسرى كما وصفه رسول الله، بناءً مرتفعًا يصل إلى 29 مترًا، فوقه قبة بيضاوية كبيرة، وتحيط الأشجار بأسواره، كما تنتشر المصابيح حول القصر. فظهر من الجهة الأخرى متلألأ بشكل يسلب أنظار العرب الذين لم يعتادوا على ذلك.

وهنا صرخ ضرار بن الخطاب بأعلى صوته “الله أكبر! هذا أبيض كسرى، هذا ما وعد اللهُ ورسولُه”. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد بشر بفتح المدائن ودخول إيوان كسرى في أكثر من موقف. ففي غزوة الخندق عندما اعترضت صخرة كبيرة طريق المسلمين خلال الحفر. مسك النبي بنفسه المعول وبدأ يضرب الصخرة، فقال في الضربة الأولى “الله أكبر! أُعطِيتُ مفاتيح الروم، هذه قصورها الحمراء”، ثم ضرب ضربة ثانية فأضاء المكان بشرر عظيم، فقال: “الله أكبر! أُعْطِيتُ مفاتيح كسرى، هذا أبيض كسرى. ثم ضرب الضربة الثالثة، فقال: “الله أكبر! أعطيت لي مفاتيح اليمن، هذه قصور صنعاء”.

عندما وعد النبي المسلمين بإيوان كسرى، كانوا قلة محاصرين من جيش الأحزاب الذي جمع قبائل العرب واليهود. لم يكن أي شيء يدل على حدوث ذلك، لكن وعد الله ورسوله كافي.

ولم تكن هذه المرة الأولى التي يؤكد فيها النبي على فتح المدائن ودخول إيوان كسرى. فخلال هجرته إلى المدينة المنورة، طارده سراقة بن مالك، فقال له “كيف أنت يا سراقة، وفي يديك سواري كسرى”. قال سراقة “أنت مطارد يا محمد وتعدني بسواري أعظم ملوك الأرض؟، فقال النبي “نعم”.

 

عبور نهر دجلة

ظل المسلمون يكبرون وهم على الضفة الأخرى قبل عبور النهر، حتى وصل صدى تكبيرهم إلى كسرى فارس، فارتعب الفرس. لكن لم يكن عبور النهر سهلًا أبدًا، فعندما هرب الفرس من بهرسير قطعوا الجسر حتى لا يعبر المسلمون خلفهم. كما سحبوا جميع السفن في الجهة الشرقية حتى لا يستولى عليها الجيش الإسلامي. بالإضافة إلى أن فيضان نهر دجلة كان على الأبواب وعبور 60 ألف مسلم في هذا الوضع خطير للغاية. وما يزيد الوضع خطورة عدم تمكن العرب من السباحة، فهم يعيشون بقلب الصحراء.

اقترح بعض الجنود الفرس العبور من بعض الأماكن الضحلة، لكن سيدنا سعد تريث واستخار الله. وبينما هو نائم ليلًا رأى رؤيا عبور الجيش من النهر. لذلك لما استيقظ حسم الأمر وأخذ قرار العبور.

كان الفرس قد وضعوا قوة كبيرة على الضفة الشرقية للنهر، فأعلن سعد التطوع. فتقدم له 600 من فرسان المسلمين، وأمر عليهم البطل عاصم من عمرو التميمي. وعرفت هذه الكتيبة بكتيبة الأهوال، لأنها كانت أول من يواجه بأس الفرس ومهدوا الطريق للجيش. تقدم 60 شخص ثم تبعهم 600 آخرين وعبروا النهر، بينما جيش المسلمين ما زال في مكانه.

اجتازت الكتيبة النهر رغم الفيضان، ووقع الفرس ضحية لهول المفاجأة التي لا تصدق. نزلوا للمسلمين في قلب النهر وتقاتلوا، فأمر سيدنا عاصم جنود الكتيبة برمي الرماح في أعين الفرس. ولعبت الروح المعنوية للمسلمين دورًا في التغلب على الفرس الذين تعرضوا لهزائم متتالية.

نجحت الكتيبة في العبور والقتال مع القوة الفارسية على الضفة الأخرى. وبينما يدافع الجنود الفرس عن المدينة، وصلهم الخبر بهروب من فيها، فهربوا هم أيضًا من ميدان المعركة. ولما رأى سيدنا سعد ذلك عبر بالجيش النهر، وقال لهم “اعبروا مثنى، مثنى”.

 

دخول إيوان كسرى

طارد المسلمون الفرس حتى دخلوا إلى المدائن، ووجدوا يزدجرد كسرى فارس قد هرب بأهله وبما استطاع حمله من الكنوز والأموال. لم يجد الجنود المسلمين أي مقاومة، لكنهم ظلوا يحاصرون القصر الأبيض 3 أيام، حتى استسلم الجنود داخله.

دخل قائد فتح المدائن سعد بن أبي وقاص إيوان كسرى، وجعله مصلى، ثم أقام في المدائن ونشر الجنود فيها. حصل المسلمون على غنائم لا حصر لها، فأرسل سعد خمسها إلى خليفة المسلمين عمر بن الخطاب، وجعل سيدنا سلمان الفارسي يوزع الباقي على الجند.

وعندما وصلت الغنام إلى عمر، رأى سوار كسرى فأعطاه لسراقة بن مالك. وهكذا تحقق وعد رسول الله لسراقة خلال هجرته إلى المدينة. فكان تاريخ فتح المدائن في صفر سنة 16 من الهجرة، أي بعد 16 سنة من هذا الوعد.

 

 

 

المصادر:

الطبري: تاريخ الأمم والملوك.

محمد، رضا، (تاريخ الخلفاء) ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، المجلد الأول، عام 1977 م.

شاكر، محمود، (التاريخ الإسلامي) ، المكتب الإسلامي، بيروت، سنة 1985 م.

الكامل في التاريخ.

موقع قصة الإسلام : فتح المدائن.

 

الوسوم :

التعليقات

لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات مشابهة

عرض جميع المقالات