على الرغم من وجود محاولات سابقة لكن فتح بلاد السند بشكل منظم بدأ في عهد الدولة الأموية تحت قيادة الخليفة الوليد بن عبد الملك. وشكلت هذه الفتوحات مرحلة هامة في تاريخ الإسلام، حيث امتدت حدود الدولة الإسلامية إلى شبه القارة الهندية. كانت الفتوحات بقيادة محمد بن القاسم الثقفي الذي لعب دورًا محوريًا في إخضاع المنطقة ونشر الإسلام فيها. وقد سلمه هذه المهمة ابن عمه الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق. وكان الهدف من الفتح توسيع حدود الدولة الأموية ونشر الإسلام بين شعوب هذه البلاد، التي كانت تدين بالمجوسية والبوذية والهندوسية. وأيضًا حماية الطرق التجارية الممتدة بين العراق والهند.

 

الاستعداد لـ فتح بلاد السند

طلب الحجاج بن يوسف الثقفي 6 آلاف مقاتل من أشراف الشام من الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك. ثم جهزهم بالسلاح والعتاد، وضم لهم بعض المتطوعين من العراق. وتولى قيادة الجيش محمد بن القاسم الثقفي، الذي خرج بالجيش وأقام في شيراز حتى يصله المدد. أرسل له الحجاج الإمدادات من البر والبحر، وفي أواخر سنة 92 هـ، خرجت الحملة متجهة إلى الشرق.

زحف محمد بن القاسم حتى وصل إلى بلدة فنزبور، فوجد أهلها قد استعدوا لقتاله، فحاربهم شهورًا حتى انتصر عليهم، وغنم منهم الغنائم. بعد ذلك توجه إلى أرمائيل وقاتل حتى فتحها. ثم وصلته رسالة من الحجاج يبلغه فيها بعض الوصايا الحربية، ويطلب منه أن يحفر الخنادق ويكثر من قراءة القرآن إذا وصل الديبل. وأوصى أن تكون الخنادق بعمق 6 أذرع، وعرض 12 ذراع.

 

فتح الديبل

توجه محمد بجيشه الكبير إلى الديبل، ولما علم أمير النيرون “جيسيه بن الداهر” بقدومه، أراد الخروج لقتاله لكن منعه أبيه. وصل المسلمون سواد الديبل في شهر رجب سنة 93 من الهجرة، وأمر محمد بحفر الخنادق ورفع الرايات والأعلام. ثم نصب المجانيق، وكان أكبرها منجنيق يُعرف “بالعروس”، قيل أنه احتاج 500 رجل لنصبه. ولعب هذا المنجنيق دورًا كبير في تحقيق النصر للمسلمين وإضعاف الروح المعنوية لأهل الديبل. قذف المسلمون الديبل بالحجارة والنيران. وقيل أن محمد بن القاسم دعا أمير جند منجنيق العروس وطلب منه كسر رأس معبد البد وعمود الراية التي ترفرف فوقه، وإذا فعلها سيكافئه بعشرة آلاف درهم. وكان هذا المعبد كبيرًا وفيه تمثال هائل لبوذا، قيل أن ارتفاعه بلغ 40 ذراعًا.

ضرب المسلمون المعبد وانهار التمثال وعمود الراية، ثم تسلقوا الأسوار ورفعوا راية الإسلام. وبذلك تكون الديبل أول مدينة يفتحها المسلمون في وادي السند.

وقيل أن والي الديبل ألقى بنفسه من الأسوار وفرَّ هاربًا، وأعلن الأهالي استسلامهم. ثم توجه محمد القاسم إلى السجن وأخرج المسلمون الذين تم أسرهم خلال غارة بحرية، ووضع مكانهم بعض القراصنة. وقيل أن السجان كان رجلًا عاقلًا طيبًا أحسن معاملة المسلمين، وكان اسمه ” قيله بن مهترائج”. فلما حرر محمد الأسرى المسلمين سألهم عن معاملته لهم، فقالوا أنه كان يواسيهم ويعاملهم معاملة طيبة، فعرض عليه الإسلام، فقبل ونطق الشهادتين.

قبل مغادرة المدينة، رتب محمد القاسم أمورها، وأسكن فيها 4 آلاف من المسلمين، وبنى أول مسجد في المنطقة. وأوصى عامل المدينة أن يسلم أمور الحسابات والنفقان وسجلات الديون إلى قيله بن مهترائج.

 

فتح النيرون

بعد فتح الديبل توجه محمد بن القاسم الثقفي إلى النيرون وكان عليها جيسيه بن الملك الداهر، فأمره أن يخرج منها ويترك أمها لراهب بوذي. ثم أرسل رسالة إلى محمد يتوعده فيها بهلاكه هو وجيشه، وأشار إلى فشل الحملات السابقة التي حاول فيها المسلمون فتح الديبل. ثم رد عليه محمد برسالة أيضًا كلها تهديد ووعيد.

وروي أن جيش المسلمين أنهك تمامًا وكان عطشًا، ولما وصلوا نهر السند وجدوه جافًا. فصلى محمد ركعتين ودعا الله قائلًا : “يَا دَلِيلَ المُتَحَيِّرِين وَيَا غَيَّاثَ المُستَغِيثِن، أَغِثنِي بِحَقِّ بِسمِ الله الرَّحمٰنِ الرَّحِيمِ”. فنزلت الأمطار وامتلأت الوديان، كما امتلأ نهر السند بالماء.

أغلق أهل النيرون على أنفسهم، وحاصرهم المسلمون 6 أيام حتى نفذت منهم المؤون. فأرسل الراهب البوذي المؤون إلى المسلمين ومعها رسالة يخبر فيها محمد أنه ومن معه في خدمة دار الخلافة. ثم فتح لهم باب المدينة فدخل المسلمون، وأرسلوا للحجاج يخبرونه بدخولهم تحت جناح دولة الإسلام.

أمر الحجاج محمد بن القاسم بحسن معاملتهم وإكرامهم، ففعل ذلك. وبعد أن تم الصلح معهم، أمر ببناء مسجد وعين حاكمًا وإمامًا عليها.

بعد عدة أيام غادر محمد إلى حصن سيوستان، ثم إلى الشمال الغربي من النيرون. وكان لا يمر الجيش الإسلامي على مدينة إلا فتحها، ففتح سربيدس وسهبان وسدوستان وسيويس.  واستسلم الكهنة في هذه المناطق وأعلنوا دخولهم تحت عباءة الدولة الإسلامي، ففتحت أغلب المدن بالصلح.

 

فتح الراور

بعد أن عين محمد بن القاسم الولاة ووزع الأرزاق، وصلته رسالة من الحجاج بن يوسف بالتوجه إلى النيرون مرة ثانية لقتال الملك داهر. ورأى الحجاج أن التخلص منه، سيسهل الأمر على المسلمين وسيستلم أهالي هذه المناطق.

خرج محمد في طريقه حتى وصل إلى حصن أشبهار فوجده حصينًا منيعًا. أمر ببناء خندق حوله وحاصره عدة أيام حتى أستسلم أهله وفتحوه أمام المسلمين. ثم سار حتى وصل إلى الراور فاصطدم بأتباع الملك الداهر ودخل في عدة معارك، كان النصر فيها للمسلمين.

ولما اقترب جيش المسلمين أكثر من الراور، جهز الداهر جيشًا بقيادة ابنه جيسيه ومعه بعض الفيلة. تعرض جيسيه لهزيمة ساحقة أمام المسلمين، لذلك جهز داهر جيشًا وخرج بنفسه على فيله الأبيض. واستمر القتال بين الطرفين 6 أيام خلال شهر رمضان سنة 93 من الهجرة. وفي اليوم الأخير نجح المسلمون في إشعال النار في الفيل الأبيض فهرع إلى النهر، وعندما خرج رشقوه بالسهام.

أصيب الداهر بالسهام، ثم نزل من على فيله وتقاتل مع أحد المقاتلين المسلمين، قيل القاسم بن ثعلبة بن عبد الله الطائي، فقتله. واستمر القتال حتى هرب بقايا السنديين المهزومين. وقال بعض المؤرخين أن معركة الراور لا تقل أهمية عن معركة القادسية، من حيث شدة القتال والنتائج. فقد أدت القادسية إلى فتح بلاد فارس، والراور أدت إلى فتح بلاد السند.

بعد هذا النصر الساحق توجه محمد بن القاسم إلى قلعة الراور، وكان فيها جيسيه بن الداهر وأبناء الأمراء والملوك. هرب جيسيه من القلعة إلى حصن برهمناباد، وترك فيها زوجة أبيه واسمها “راني بائي” تدافع عنها. وكان مع بائي 15 ألف مقاتل، ولما شعرت بانتصار المسلمين، جمعت النساء فأشعلوا النيران وألقوا أنفسهن داخلها. ثم فتحت القلعة أمام المسلمين، ودخلها محمد بن القاسم، وحصد الغنائم وأرسلها مع رأس الداهر إلى الحجاج في العراق.

 

فتح ملتان وبقية المدن والحصون في بلاد السند

لاحق محمد بن القاسم جيسيه الذي جهز جيشًا لمحاربة المسلمين، ففتح بهرور ودهيلة وبرهمناباد. وظل يفتح حصن وراء الأخر، واتبع سياسة حكيمة في التعامل مع سكان هذه المناطق، حتى استسلموا وانضموا إليه برضا تام.

ثم سار إلى مدينة ملتان في إقليم البنجاب بجيش مكون من 50 ألفًا. استولى على المدينة، وغنم ما فيها من ذهب وفضة بكميات هائلة، لذلك عرفت المدينة ببيت الذهب. وعلى الرغم أن محمد بن القاسم كان عازمًا على فتح قنوج أعظم ممالك الهند، وفتح البنجاب لرسم حدود الدولة الإسلامية. لكن توقف الفتح بعد وفاة الحجاج بن يوسف الثقفي سنة 95 من الهجرة، ثم وفاة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بعده. وبمجرد أن تسلم العرش سليمان بن عبد الملك خلعه من السند، وعين مكانه يزيد بن أبي كبشة السكسكي.

وبعد هذه الجهود الكبيرة في فتح بلاد السند، فقد المسلمون ما فتحوه على يد محمد بن القاسم، وحارب أهل هذه البلاد الحكام العرب وأخرجوهم من بلادهم. وعلى الرغم من ذلك ظل أهالي هذه المناطق يدخلون الإسلام، حتى صار 97% منهم مسلمين، وهم أهل باكستان اليوم.

 

 

اقرأ أيضًا: فتح بيت المقدس في عهد عمر بن الخطاب

 

 

المصادر:

البلاذري: فتوح البلدان.

محمد سهيل طقوش: تاريخ الدولة الأموية.

ابن حزم: جمهرة أنساب العرب.

الطبري: تاريخ الرسل والملوك.

الذهبي: سير أعلام النبلاء.

ابن الأثير: الكامل في التاريخ.

 

 

الوسوم :

التعليقات

لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!

اترك تعليق

مقالات مشابهة

عرض جميع المقالات