لم يبدأ فتح بلاد ما وراء النهر في عهد الدولة الأموية، فقد كانت هناك محاولات بدأت منذ عصر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. عنما طارد الأحنف بن قيس ملك الفرس يزدجرد الثالث حتى نهر جيجون، وهو الحد الغربي لبلاد ما وراء النهر. تحالف يزدجرد وخاقان الترك ضد المسلمين لكن فشل حلفهم، وانسحب الخاقان داخل بلاده، لكن المسلمون لم يعبروا نهر جيجون بناءً على أوامر سيدنا عمر.

وفي عهد عثمان بن عفان اشتبك الأحنف بن قيس مع الأتراك بطارخستان على حدود نهر جيجون. انتصر عليهم ووصل بقواته حتى خوارزم، لكنه عاد إلى بلخ في خراسان ولم يكمل. ثم توقفت حركة الفتوحات بسبب انشغال المسلمين بأحداث الفتنة الداخلية، لتبدأ من جديد في عهد الدولة الأموية.

 

فتح بلاد ما وراء النهر في عهد الدولة الأموية

تقع بلاد ما وراء النهر جنوب روسيا وحتى أواسط قارة أسيا، وكانت موطن للقبائل التركية الوثنية. وكان هذا الإقليم مقسمًا إلى عدة مناطق أهمها بخارى وسمرقند، وكان على كل منطقة ملك من ملوك الترك وكانوا في حروب داخلية.

كانت هناك محاولات صغيرة لفتح بلاد ما وراء النهر منذ سنة 54 هـ. لم يكن الأمر منظم أو مخطط له، بسبب انشغال خلفاء بني أمية بتوطيد حكمهم والقضاء على عبد الله بن الزبير. لكن عندما تسلم الحكم الوليد بن عبد الملك، كانت الأمور الداخلية قد استتبت، فتفرغ للفتوحات في الشرق والغرب.

تولى فتوحات ما وراء النهر القائد العظيم قتيبة بن مسلم الباهلي. وبدأ ظهوره على ساحة الأحداث عندما اختاره القائد الكبير المهلب بن أبي صُفرة كواحد من أفضل المقاتلين وأرسله لوالي العراق الحجاج بن يوسف الثقفي. بعدما تأكد الحجاج من مهارة وكفاءة قتيبة ولاه على الري خلال عهد عبد الملك بن مروان. وعندما أدى مهمته على أكمل وجه عينه الحجاج على إقليم خراسان سنة 86 من الهجرة.

بدأ قتيبة فتوحاته في إقليم ما وراء النهر، بإعادة السيطرة على طخارستان والصغانيان والطلقان، ونجح في القضاء على أي قوة داخلية ضد العرب. ثم بدأ في فتح مدينة وراء أخرى كالتالي:

فتح بيكند

كانت بيكند من أهم المدن التجاري التي تربط المدن ببعضها، فكانت تقع بين الصين وخراسان، وتربط مرو ببخارى. تقدم قتيبة بجيوشه، وكان معه جيوش من خُراسان وطُخارستان والصغانيان.  كانت المدينة محاطة بأسوار ضخمة وتحميها حامية كبيرة، ولما سمعوا بوصول المسلمين استعدوا للدفاع بشكل جيد.

حاول المسلمون اختراق الأسوار لكنهم فشلوا بسبب مناعتها. ولجهلهم بتضاريس المكان تم حصارهم وانقطعوا عن طرق المواصلات والإمدادات. كما انقطعت أخبارهم عن الحجاج بن يوسف الثقفي في العراق.

هجم الصغد على المسلمين بشكل يومي، مستغلين أعدادهم الكبيرة، وحاولوا إجبار قتيبة على التراجع. لكن قتيبة تصدى لهم، فلجأوا إلى نشر شائعات حول موت الحجاج، لكنه قضى على المندسين بين جيشه. ثم خطب في جيشه ورفع همتهم، وضغطوا على الصغد حتى هزموهم هزيمة كبيرة. فرَّ قسم من الصغد، بينما احتمى البعض داخل المدينة.

كان قتيبة على وشك فتح ثغرة في الأسوار، وفي هذه اللحظة طلبت حامية المدينة الصلح، فوافق وصالحهم بعد حصار دام 50 يومًا. ترك قتيبة والي على المدينة، ثم خرج منها وبينما هو في طريقه وصله خبر بنقض أهل بيكند للصلح. لذلك عاد وحاصر المدينة شهرًا، ثم هدم أسوارها ودخلها عنوة سنة 78 من الهجرة.

فتح بخارى

قرر قتيبة بن مسلم عزل بخارى وفتحها لاحقًا، لذلك فتح أولًا نومشكت وكرمينية ورامتنة سنة 88 هجرية. بعد أن انسحب إلى مرو ونجح في عزل بخارى، قام بحصارها وتطويقها سنة 90 من الهجرة. استنجدت حامية بخارى بالترك، فاجتمعوا لنصرتها، ودارت معركة عنيفة بينهم وبين الجيش الإسلامي.

حاول قتيبة ضرب الحلفاء وتفريقهم فوجه إليهم الفرقة الأزدية. ثم قامت الفرقة التميمية ببناء جسر وعبور النهر. ولما تمكن الجيش الإسلامي من هزيمة الصغد والترك، جاء ملك بخارى طالبًا الصلح، فقبل قتيبة. وقيل لم يقبل الصلح ودخل المدينة عنوة.

فتح خوارزم

بعد أن نجح قتيبة في توطيد الأمن في أفغانستان، فتح مدينة شومان وكش ونسف في أواخر سنة 91 هـ. وفي سنة 93 هـ، عبر نهر جيجون في اتجاه خوارزم، بعد استنجاد ملكها به. اتفق الملك مع قتيبة على الصلح مقابل أن يقف بجواره ضد أخيه الذي يتحكم في البلاد، وأن يساعده ضد ملك مجاور له يدعى “خام جرد”.

أشاع قتيبة أن اتجاهه إلى الصغد، حيلة منه لاقتحام خوارزم فجأة. وقد ساعده أيضًا ملك خوارزم، وعندما صار على أبواب مملكته، أعلن رغبته في الصلح أمام قومه. وتم الصلح مقابل 10 آلاف رأس من الغنم للمسلمين، وبقاء ملك خوارزم عليها وتسلميه أخاه. وبعد أن وضع قتيبة أخاه عبد الله بن مسلم حاكمًا على خوارزم عاد إلى هزار أسب.

 

فتح سمرقند

كانت سمرقند أكثر بلد حصينة خلال فتح بلاد ما وراء النهر، وبعد أن نقض أهلها الصلح مع المسلمين، قرر قتيبة بن مسلم فتحها. حاصر المسلمون المدينة شهرًا تخلله بعض القتال، فاستنجد ملك المدينة بملك الشاش وملك فرغانة، فوصلا لنجدته بجيوشهم. حاول قتيبة اقتحام المدينة عدة مرات دون أن يتمكن من ذلك.

ولما علم قتيبة بوصول الملوك بالمدد لمساعدة الصغد، اختار 600 فارس على رأسهم أخيه صالح بن مسلم، وأرسلهم لقطع الطريق. نجح صالح في عمل كمين للمساعدات القادمة، وانقض قتيبة من جهة أخرى، فكانت ليلة قتال شرسة، انتصر فيها المسلمون.

وفي اليوم التالي ضرب قتيبة أسوار سمرقند بالمنجنيق ليلًا نهارًا، حتى أحدث فيها تدميرًا. ولما رأى أهل المدينة أنهم لن يصمدوا في مواجهة المسلمين، سارعوا في طلب الصلح. وافق قتيبة على الصلح مقابل مبلغ من المال يدفع سنويًا للمسلمين، وأن يخلوا المدينة من المقاتلين، وأن تُزال الأصنام وتهدف بيوت النار المجوسية.

ثم بنى قتيبة مسجدًا وصلى فيه، وترك حامية مسلمة لحماية المدينة، وعين عاملًا عليها، مع السماح لملكها بالبقاء على عرشه. ولما رأى أهل سمرقند سماحة المسلمين وحسن معاملتهم، بدأوا يدخلون في الإسلام أفواجًا. وفتحت سمرقند عام 93 من الهجرة، وكان فيها مصنعًا للورق، وهي صناعة صينية نقلها الحرفيين إلى المدينة. ومع الوقت انتقلت صناعة الورق إلى دمشق، ثم بغداد والقاهرة والأندلس.

 

فتح الشاش وفرغانة

بعد أن فتح قتيبة سمرقند وجد أن الأمن في المنطقة لن يستتب إلا بعد القضاء على هذه الدويلات الثلاثة ( الشاش، فرغانة، أشروسنة). وبحلول عام 95 من الهجرة كان قد فتحها جميعًا. وبينما هو بالشاش جاءه خبر موت الحجاج بن يوسف الثقفي، فحزن عليه حزنًا شديدًا.

كان الخليفة الوليد بن عبد الملك يعلم مدى حزن قتيبة على الحجاج، فبعث إليه برساله يواسيه ويشجعه. وقال الوليد في الرسالة قَد عَرَفَ أَميرُ المُؤمِنِينَ بَلَاءَكَ، وَجَدَّكَ فِي جِهَادِ أَعدَاءِ المُسلِمِين، وَأَميرُ المُؤمِنِين رَافِعُك، وَصَانِعٌ بِكَ كَالذِي يَجِبُ لَك، فَالمِم مَغَازِيَكَ، وَانتَظِر ثَوَابَ رَبِّكَ، وَلَا تَغِيبَ عَن أَمِيرِ المُؤمِنِينِ كُتُبِك، حَتَّى كَأنِي أَنظُرُ إِلَى بِلَادِكَ وَالثَّغرُ الذِي أَنتَ بِهِ”. فكان لهذه الرسالة أثر عظيم في نفس قتيبة، وعادت إلي همته.

 

فتح كاشغر

بعد فتح فرغانة والشاش في بلاد ما وراء النهر، توجهت أنظار قتيبة ناحية الصين، ونجح في فتح كاشغر سنة 96  من الهجرة. وبعد كاشغر وصل إلى حدود الصين، فأرسل له ملكها للتفاوض. أرسل له قتيبة وفدًا على رأسه هبيرة بن مشمرج الكلابي. وقال لهم: “إذا دخلتم على الملك فأعلموه أني حلفت ألا أعود حتى أطأ أرضه”.

ولما دخلوا على الملك قال لهم: “قولوا لصاحبكم ينصرف فإني قد عرفت قلة أصحابه وإلا بعثت إليكم من يهلككم”. فقال له هبيرة: “كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون؟. وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالا إذا حضرت فاكرمها القتل ولسنا نكرهه ولا نخافه. وقد حلف أن لا ينصرف حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم ويعطى الجزية”.

لما قال هبيرة ذلك عاد لملك الصين عقله واعتدل في جلسته وعرض أن يبرَّ قسم قتيبة. لذلك أرسل له هدية و4 غلمان من أبناء الملوك، وحفنة من تراب الصين. ولما قدموا إلى قتيبة قبل الجزية وختم الغلمان وأعادهم ووطئ التراب.

انتهت فتوحات قتيبة سنة 96 من الهجرة بوفاة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك. وقام سليمان بن عبد الملك بعزله بسبب مكيدة تعرض لها، وانتهى الأمر بقتله بسهم على يد أحد عملاء سليمان بن عبد الملك سنة 96 من الهجرة.

وقد غضب الجميع لموت قتيبة بهذه الطريقة حتى أن أعدائه قالوا “يا معشر العرب قتلتم قتيبة، لو كان منَّا فمات فينا، جعلناه في تابوت، فكنا نستفتح به إذا غزونا”.

 

 

 

 

 

المصادر:

ابن الأثير: الكامل في التاريخ.

الطبري: تاريخ الأمم والملوك.

الحموي: معجم البلدان.

البلاذري: فتوح البلدان.

محمد سهيل طقوش: تاريخ الدولة الأموية.

الذهبي: سير أعلام النبلاء.

ابن كثير: البداية والنهاية.

ابن عساكر: تاريخ دمشق.

 

 

 

 

 

مقالات مشابهة

عرض جميع المقالات