كانت فتوحات الشام في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، مكملة للغزوات التي بدأت في عهد رسول الله. فقد كانت غزوة مؤتة سنة 8 من الهجرة، ثم غزوة تبوك، ثم جهز رسول الله سرية أسامة بن زيد إلى الشام، لكنها لم تخرج إلا بعد وفاته. وقبل كل هذه الغزوات كان النبي قد أرسل إلى أمراء الشام وهرقل عظيم الروم ودعاهم إلى الإسلام. وبعد وفاة رسول الله، أرسل أبو بكر إلى الشام جيش أسامة بن زيد، ثم جيش بقيادة خالد بن سعيد بن العاص، ثم أرسل 4 جيوش.
جيش خالد بن سعيد بن العاص
أرسل خليفة المسلمين أبو بكر الصديق، خالد بن سعيد بن العاص بجيش إلى تيماء، وهي بلدة بين أطراف الشام ووادي القرى. كما أمره ألا يترك البلدة، وألا يقاتل إلا من يبادر إليه بالقتال. وصل الخبر ملك الروم هرقل، فجهز جيشَا مكونًا من العرب التابعين له، من قبائل كلب، وغسان، وبهراء، ولخم، وجذام، وسليح. لكن خالد بن سعيد زحف إليهم قبل تنظيم صفوفهم، ونصحه أبو بكر ألا يتوغل داخل بلاد العدو كثيرًا، وأن يحافظ على طريق عودته.
سار خالد بالجيش حتى وصل إلى البحر الميت عند قرية القسطل الفلسطينية، فهزم أحد جيوش الروم شرق البحر. ثم تقدم بالجيش، فتجمع الروم بأعداد هائلة أكثر من أعدادهم في تيماء، فطلب خالد المدد من الخليفة. أرسل أبو بكر عكرمة بن أبي جهل ليلحق به، ثم أعقبه بجموع أخرى بقيادة الوليد بن عقبة.
لما وصلت هذه القوات إلى خالد بن سعيد، أمر بالهجوم على الروم، لكن استدرجه قائدهم “ماهان” حتى وصلوا إلى مرج الصفر شرق بحيرة طبرية. نجح ماهان في هزيمة المسلمين، وهرب خالد بكتيبة من أصحابه، وسحب عكرمة باقي الجيش إلى حدود الشام.
جيوش فتوحات الشام في عهد أبي بكر
دعا أبو بكر الصديق بالنفير إلى الجهاد، فنادى بلال بن رباح ” أن أنفروا إلى جهاد عدوكم بالشام”. كما أرسل إلى أهل اليمن فجاؤوا بأعداد هائلة للمشاركة. ثم عقد أبو بكر أربعة ألوية، كل لواء عليه أمير، ثم أمرهم أن يسلكوا طرقًا متفرقة، كالتالي:
جيش يزيد من أبي سفيان
وكانت مهمته فتح دمشق، وتقديم المساعدة إلى باقي الجيوش عند الضرورة. وكان أول الجيوش التي وصلت إلى الشام، بعدد 3 آلاف مقاتل، ثم أرسل إليه أبو بكر المدد، فصار معه 7 آلاف رجل. وخرج هذا الجيش في 23 رجب سنة 12 من الهجرة.
جيش شرحبيل بن حسنة
كان مكونًا من 3 آلاف أو 4 آلاف مقاتل، وكان طريقه إلى تبوك والبلقاء ثم بصرى. صار شرحبيل بالجيش ولم يجد أي مقاومة في طريقه، وتوغل في البلقاء حتى وصل بصرى، لكنها كانت محصنة فلم يستطع فتحها.
جيش أبي عبيدة بن الجراح
كان مكونًا أيضًا من حوالي 4 آلاف رجلًا، وكان طريقه إلى حمص. خرج من المدينة وعبر وادي القرى إلى الجابية. وكان معه قيس بن هبيرة بن مسعود المرادي، وهو أحد أشهر فرسان العرب.
جيش عمرو بن العاص
وكانت جهته إلى فلسطين، ومكونًا من 7 آلاف مقاتل تقريبًا. أرسل عمرو بن العاص في اتجاه الروم قوة استطلاعية من 1000 مقاتل بقيادة عبد الله بن عمر بن الخطاب، فقاتلوهم وانتصروا عليهم. كما أسروا بعض الجنود، فعلم منهم عمرو بن العاص بخطة الروم للهجوم عليهم، فصدهم. ثم شنَّ هجوم مضاد عليهم، فقتل الآلاف منهم وهربوا من أرض المعركة.
مواجهة الروم
كانت القوات العسكرية للروم قوية وكبيرة العدد، إذا ما قارناها بجيش المسلمين. كما قسم الروم الجيش إلى قسمين كبيرين، أحدهما في فلسطين، والآخر في أنطاكية. وعندما علم امبراطور الروم بتوغل جيوش المسلمين داخل أراضيه، أصدر أوامره للجيوش بالخروج والهجوم عليهم وتدميرهم.
أرسل قادة المسلمين إلى أبي بكر واستغاثوا به، فأمدهم بأعداد أخرى، من الرجال والخيل والسلاح. فأرسل 1000 مقاتل بقيادة هاشم بن أبي عتبة بن أبي وقاص إلى أبي عبيدة. وأرسل 700 رجل بقيادة سعيد بن عامر إلى يزيد بن أبي سفيان.
كما قرر قادة المسلمين في الشام بتجميع قواتهم والالتقاء في اليرموك لقتال الروم. فانسحب أبو عبيدة من حمص، وشرحبيل من الأردن، ويزيد من دمشق، وعمرو بن العاص انسحب تدريجيًا من فلسطين.
ثم أرسل أبو بكر خالد بن الوليد من العراق إلى الشام، ليتسلم قيادة الجيوش، لأنه يتمتع بقدرة وحنكة عسكرية فائقة. وبعد سير 5 أيام في الصحراء، وصل خالد بجيشه إلى الشام، وفتح في طريقه ( أدك، تدمر، القريتين)، ثم نشر رايته في ثنية العقاب. وسار في طريقه حتى وصل بصرى، فوجد الصحابة يقاتلون أهلها، فانضم إليهم وحصل عليها بالصلح.
معركة أجنادين
انسحب عمرو بن العاص على طول ضفة نهر الأردن، ليلتحق بالجيوش الأخرى. وقرر خالد بن الوليد الالتحاق بجيش عمرو، للقضاء على قوة الروم، وحماية خط الرجوع، وتثبيت وجود المسلمين في فلسطين. انسحب خالد من اليرموك إلى سهل فلسطين، وأمر عمرو بن العاص باستدراج جيش الروم حتى يصل إليه، فيكونوا قد وقعوا في كمين بينهما.
وصل عمرو إلى أجنادين، ثم وصله خالد بجيشه في الوقت المناسب، فصارت قوة المسلمين 30 ألفًا. اصطدم عمرو بقوات الروم، ثم انقض عليهم خالد بجيشه الكبير، وجرت بينهم معركة عنيفة. لعب خالد بن الوليد وعمرو بن العاص دورًا مهمًا، وأظهرا مدى مهارتهما كقائدين عسكريين، فاقتحموا قوات الروم، ووصلوا للقائد وقتلوه. ثم تفرقت القوات الرومية في جهات مختلفة، وانتصر المسلمون في أجنادين.
معركة اليرموك
بعد الانتصار العظيم في أجنادين، تجمعت قوات المسلمين في اليرموك، وكان عددهم 45 ألف تقريبًا، بقيادة سيف الله المسلول خالد بن الوليد. ثم وصلت قوات الروم، بقيادة “تيدور”، وكان عددهم 240 ألف مقاتل، ونزلوا في مكان واسع، لكن طريق الهروب منه ضيق، فصار خندقًا عليهم.
قسم خالد الجيش إلى عدة أقسام، فجعل على الميمنة عمرو بن العاص، ومعه شرحبيل بن حسنة. وعلى الميسرة يزيد بن أبي سفيان، وعلى القلب أبو عبيدة بن الجراح ومعه القعقاع بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل.
مع بداية القتال انقضت قوات الروم على ميمنة المسلمين، فانكشف قلب الجيش الإسلامي، وأحدث الروم ثغرة، وتسللوا في صفوف المسلمين حتى وصلوا إلى المؤخرة. ثبت المسلمون وصدوا الهجوم، لكن الروم نجحوا في الانقضاض على الميمنة. ثم انقضت ميمنة الروم على ميسرة المسلمين بشكل شديد، فانكشف قلب الجيش الإسلامي من اليسار كما انكشف من اليمين. وهنا فرَّ بعض الجنود من أرض المعركة، وتبعهم الروم داخل المعسكر.
لما رأت نساء المسلمين الرجال يفرون، رموهم بالحجارة، وصاحوا فيهم، فعاد رجال المسلمين إلى القتال من جديد، وقتلوا من الروم عدد كبير. لكن لم يتوانى الروم، وظلوا يهجمون، فهجمت ميمنهم على ميسرة المسلمين، وانقضوا على عمرو بن العاص وجنوده. تمكن الروم ثانية من التغلغل إلى أعماق معسكر المسلمين، لكن النساء لعبنَّ دورًا في تشجيع الرجال، فعادت للمسلمين عزيمتهم. عاد الجيش الإسلامي لأرض المعركة، ونجحوا في استعادة الأماكن التي سيطر عليها الروم.
انقض خالد بن الوليد على ميسرة الروم، فقتل منهم 6 آلاف. ثم قامت ميمنة المسلمين في إغلاف الثغرات والمنافذ في وجه الروم، وحاصروهم بين نهر الزرقاء ووادي اليرموك. كما استطاعوا فصل مشاة الروم عن فرسانهم، وهجموا عليهم حتى أنهكوهم، فحاولت قوات الروم إيجاد ثغرة للهرب. أمر خالد بفتح المجال لهرب الفرسان، ثم تجمع المشاة بالخنادق وهم مقيدون بالسلاسل، فإذا قتل واحد منهم سحب معه 7 آخرين مقيدون بنفس السلسة.
شهداء المسلمون في اليرموك
خلال فتوحات الشام في عهد أبي بكر، استطاع المسلمون قتل عدد كبير من قوات الروم وصل إلى 120 ألف، منهم 80 ألفًا قتلوا بالسلاسل، و40 ألفًا سقطوا في الوادي. وانسحب الناجون منهم إلى فحل ودمشق. ونجح المقاتلين في قتل أحد قادة الروم واسمه “تذارق”، وكان له 30 سرادق، و30 رواق من ديباج مليئة بالحرير. فحاز المسلمون كل ما فيها من غنائم.
واستشهد من المسلمين في معركة اليرموك، 3 آلاف شهيد، منهم: عكرمة بن أبي جهل وابنه، أبان بن سعيد، عمرو بن سعيد، وسلمة بن هشام.
المصادر:
ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق.
الطبري: تاريخ الأمم والملوك.
بن كثير: البداية والنهاية.
الأزدي: فتوح البلدان، ص 115.
موقع قصة الإسلام: فتوحات الشام في عهد أبي بكر الصديق.
التعليقات
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!
اترك تعليق
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *