قتيبة بن مسلم الباهلي فاتح المشرق العظيم، هو قائد عسكري مسلم يعود له الفضل في فتح بلاد ما وراء النهر، ودخول الأتراك في الإسلام. قاد الفتوحات الإسلامية في أسيا الوسطي خلال القرن الأول الهجري في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك. اختاره الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق ليفتح بلاد ما وراء النهر وجهز جيشًا كبيرًا وجعله قائدًا عليه. ونجح قتيبة في فتح هذه البلاد وضمها لحدود الدولة الأموية.
نسبه ونشأته
أبوه هو مسلم بن عمرو بن حصين بن ربيعة أبو حفص الباهلي، كان من أصحاب مصعب بن الزبير والي العراق. قاتل مع عبد الله بن الزبير في حربه ضد عبد الملك بن مروان سنة 72 هجرية. لذلك ولد في بيت إمارة في البصرة سنة 46 هـ. ونشأ قتيبة على العلم والقرآن والفروسية وفنون الحرب، ولما كبر صار شابًا لامعًا ولفت الانظار إليه كثيرًا.
وبدأ ظهوره على ساحة الأحداث عندما اختاره القائد الكبير المهلب بن أبي صُفرة كواحد من أفضل المقاتلين وأرسله لوالي العراق الحجاج بن يوسف الثقفي. بعدما تأكد الحجاج من مهارة وكفاءة قتيبة ولاه على الري خلال عهد عبد الملك بن مروان. وعندما أدى مهمته على أكمل وجه عينه الحجاج على إقليم خراسان سنة 86 من الهجرة.
فتح بلاد ما وراء النهر
تقع بلاد ما وراء النهر جنوب روسيا وحتى أواسط قارة أسيا، وكانت موطن للقبائل التركية الوثنية. وكان هذا الإقليم مقسمًا إلى عدة مناطق أهمها بخارى وسمرقند، وكان على كل منطقة ملك من ملوك الترك وكانوا في حروب داخلية.
سنة 86 هـ، بدأ قتيبة بن مسلم بفتح بلخ وبعدها فتح بيكند سنة 87 هـ، وظل يفتح مدينة وراء أخرى، وفتح إقليم الصغد. ثم توجه إلى بخارى وبذل جهدًا كبيرًا حتى فتحها سنة 89 هـ، ثم استولى على خوارزم سنة 93 هـ، وأخيرًا فتح سمرقند بعد قتال شديد مع أهلها.
لم يكتف قتيبة بذلك بل أراد مد نفوذ الدولة الأموية إلى وسط أسيا فعبر نهر جيجون. وفي سنة 95 هـ، فتح خوقند وكاشغر. وظل يتابع فتوحاته في اتجاه الشرق حتى وصله خبر وفاة الخليفة الوليد بن عبد الملك. لم يتوقف قتيبة على الرغم من ذلك وواصل طريقه حتى وقف على حدود الصين وأخضع ملكها حتى دفع الجزية.
استراتيجية قتيبة في الفتوحات
كان قتيبة قائدًا ذكيًا يعرف كيف يختار القادة لكل مهمة، وكان يميز الصديق من العدو، وحتى أعدائه يستطيع إيجاد مفاتيحهم والتغلب عليهم. فعندما حدث تمرد في خراسان، اقترح عليه المحيطين به أن يسلم إخماد التمرد للقائد وكيع بن الأسود، الذي كان بمثابة الرجل الثاني في جيش قتيبة. لكن قتيبة رفض وقال: “إنَّ وكيعًا به من الكبر ما قد يجعله يُقلِّل من قدرات أعدائه وهذا يجعلهم يأخذونه على غِرَّة”.
وكان قتيبة خلال فتوحاته في بلاد ما وراء النهر، يعتمد على تجنيد جواسيس وعملاء من الأعداء أنفسهم. فخلال حصاره لمدينة بيكند في أوزباكستان، جند عميلًا امسه “تندر”. لكن أهل بيكند قاموا بتجنيده أيضًا وأغروه بالمال فصار عميلًا مزدوجًا. حاول تندر خديعة قتيبة حتى يفك حصار المدينة، وأخبره أن والي العراق الحجاج بن يوسف الثقفي تم خلعه. لكن قتيبة أدرك الأمر وقتله واستمر في حصاره، وفتح بيكند التي كانت تعرف بمدينة التجار، فكانت فتحًا عظيمًا للمسلمين.
اختار قتيبة قبيلة تميم وهي قبيلة وكيع بن الأسود لاقتحام بيكند، لأنهم كانوا معروفين ببأسهم الشديد. وظل ينادى فيهم بأعلى صوته “من جاء برأس كافرٍ فله 100 دينار”. ثم نادى وكيع “من كان يُريد الموت فليتبعني، ومن كان كارهًا فليثبت في مكانه”.
كان قتيبة قائدًا ذكيًا يشجع المقاتلين بكل الوسائل التي تجعلهم يحاربون بروح عالية. فعلى سبيل المثال، طلب من الحجاج أن يوزع على المجاهدين غنائم فتح بخارى، كي يخفف عليهم الغربة وبعدهم عن الأهل والوطن.
قصة قتيبة بن مسلم وملك الصين
بعد أن فتح قتيبة كاشغر ووصل إلى حدود الصين، أرسل له ملكها أن يبعث إليه رجلًا شريفًا يحدثه عن دين الإسلام. اختار قتيبة عددًا من أفضل الرجال من أصحاب العقل والصلاح والبأس الشديد، وكان على رأسهم هبيرة بن مشمرج الكلابي. وقال لهم: “إذا دخلتم على الملك فأعلموه أني حلفت ألا أعود حتى أطأ أرضه”.
ولما دخلوا على الملك قال لهم: “قولوا لصاحبكم ينصرف فإني قد عرفت قلة أصحابه وإلا بعثت إليكم من يهلككم”. فقال له هبيرة: “كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون؟. وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالا إذا حضرت فاكرمها القتل ولسنا نكرهه ولا نخافه. وقد حلف أن لا ينصرف حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم ويعطى الجزية”.
لما قال هبيرة ذلك عاد لملك الصين عقله واعتدل في جلسته وقال: “فما الذي يرضي صاحبكم؟. قال هبيرة: إنه حلف ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، ويعطي الجزية”.
فعرض الملك أن يبرَّ قسم قتيبة، فعرض أن يرسل له بعض تراب أرضه فيطأه، وبعض أبنائه فيختمهم، وجزية يرضاها. فأرسل هدية و4 غلمان من أبناء الملوك، وحفنة من تراب الصين. ولما قدموا إلى قتيبة قبل الجزية وختم الغلمان وأعادهم ووطئ التراب. فانتهت فتوحات قتيبة سنة 96 من الهجرة بوفاة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك.
قتيبة والترك
كان يسكن هذه المناطق الشرقية عرقين من البشر القبائل الفارسية، وقبائل الترك. وكان نهر المرغاب يفصل بين العرقين. فدخل الفرس الإسلام وانضمت حدودهم إلى الدولة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين. أما الترك فانضمت بلادهم لحدود الدولة الأموية على يد قتيبة بن مسلم الباهلي ودخلوا إلى الإسلام بفضله. ثم بدأوا في التوغل ناحية الأناضول حتى أسسوا الدولة العثمانية وغزوا أوروبا.
نهاية قتيبة بن مسلم
قيل أن قتيبة بن مسلم الباهلي تمرد على سليمان بن عبد الملك عندما تولى الخلافة بعد وفاة أخيه الوليد بن عبد الملك. حيث كان قتيبة في صف الوليد عندما عهد بولاية العهد إلى ابنه بدلًا من أخيه، لذلك خشى أن يعزله وينتقم منه. لكن هناك من قال أنه لم يتمرد، لكن تعرض لمكيدة بسبب المنافسة بين القبائل. وانتهت هذه الفتنة والمكيدة بقتله بسهم على يد أحد عملاء سليمان بن عبد الملك سنة 96 من الهجرة.
وقد غضب الجميع لموت قتيبة بهذه الطريقة حتى أن أعدائه قالوا “يا معشر العرب قتلتم قتيبة، لو كان منَّا فمات فينا، جعلناه في تابوت، فكنا نستفتح به إذا غزونا”.
وبموت القائد العظيم قتيبة بن مسلم انتهى فصل مهم من فصول الفتوحات الإسلامية. لكن ظل حيًا إلى اليوم بسيرته العطرة، وبفضله العظيم على الأمة التركية بكل فروعها التي نالت شرف الإسلام على يديه.
ولليوم يقع قبره في وادي فرغانة شرق أوزباكستان، شاهدًا على أن بطلًا عظيمًا مر من هذه الدنيا.
المصادر:
الزركلي: الأعلام.
ابن حزم: جمهرة أنساب العرب.
البلاذري: أنساب الأشراف.
ابن الأثير: الكامل في التاريخ.
ابن كثير: البداية والنهاية.
الطبري: تاريخ الأمم والملوك.
ابن خلكان: وفيات الأعيان.
الذهبي: سير أعلام النبلاء.
التعليقات
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!
اترك تعليق