كلما أرادت إسرائيل أن تطلق رصاصة على الفلسطيني، لا تكتفي بالسلاح، بل تستدعي نبيًّا أو قاضيًا من توراتها، كأن الدم وحده لا يكفي ما لم يُغلف بنبوءة. من “الرصاص المصبوب” إلى “الجرف الصامد” و”عمود السحاب” و”سهم باشان”، اعتادت إسرائيل أن تمنح عملياتها أسماءً دينية تنفخ في آلة القتل بُعدًا روحانيًّا زائفًا. واليوم، نسمع عن عملية جديدة: “عربات جدعون”. اسم يبدو عسكريًا، لكنه توراتي بالكامل. لا يشير إلى وحدة مدرعة ولا كتيبة راجلة، بل إلى قصة قديمة عن رجل يُدعى جدعون، ورد اسمه في “سفر القضاة”، كان قاضيًا ونبيًّا من بني إسرائيل، قاد ثلاثمئة مقاتل فقط لهزيمة جيش المديانيين، بعد أن اختارهم من بين 32 ألفًا، بناءً على طريقتهم في شرب الماء.

تبدو القصة في ظاهرها دينية، لكنها محمّلة بالرمزية: النخبة المختارة، الطهارة القتالية، الخداع التكتيكي باسم الإيمان. وهنا يكمن جوهر تسمية إسرائيل للعملية الحالية ضد غزة بهذا الاسم. إنها لا تشن حربًا فحسب، بل تصوغ رواية. لا تطلق النار فقط، بل تصدر نبوءة ميدانية تستحضر القضاة الأوائل وتضعهم في خدمة المدرعات والطائرات.

 

خطة عسكرية بثلاثة فصول: 

ليس هذا أول ظهور لجدعون في المشروع الصهيوني. ففي نكبة 1948، أطلقت الهاغاناه “عملية جدعون” لاحتلال مدينة بيسان الفلسطينية وطرد سكانها. وفي عام 2015، تبنّى الجيش الإسرائيلي “خطة جدعون” لإعادة هيكلة بنيته التنظيمية. بل إن إحدى كتائب لواء غولاني تحمل اسم “جدعون”، وشعارها مستوحى من أدواته الرمزية: البوق والجرة والمشعل. هذا الاستخدام المتكرر لا يعكس حبًا سرديًا لشخصية دينية، بل هو توظيف منهجي لرموز توراتية لإضفاء قدسية على العنف. 

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، رغم علمانيته السياسية، لطالما وظّف الدين ببراعة انتخابية. يكرر أن الرب منح الأرض لآبائه، ويسمي الضفة “يهودا والسامرة”، ويقتبس من التوراة في خطاباته ليكسب تعاطف المتدينين. وبتسمية كهذه، “عربات جدعون”، يضرب نتنياهو عصفورين بحجر واحد: يمنح عمليته العسكرية شرعية دينية أمام جمهوره، ويقدّمها للعالم كمواجهة وجودية، لا كعدوان فاضح.

 

النهاية ليست نبوءة بل سقوط داخلي:
بحسب خبراء في الشأن الإسرائيلي، فإن بنيامين نتنياهو لم يتردد يومًا في استغلال الرموز الدينية التوراتية لتثبيت شعبيته داخل أوساط اليمين المتطرف. على مدار سنوات حكمه، استخدم الخطاب الديني كأداة سياسية، يُعيد من خلالها تصوير نفسه بوصفه الامتداد الزمني لقضاة بني إسرائيل. وفي “عربات جدعون”، يتجاوز نتنياهو السياسة ليؤدي دور المنقذ، مستحضرًا شخصية النبي القاضي جدعون، كما وردت في “سفر القضاة”، الذي قاد ثلاثمئة مقاتل فقط لهزيمة جيش كامل. هذا الاستدعاء ليس بريئًا، بل محاولة لبناء هالة روحية حول قراراته، وكأنه لا يقود جيشًا حديثًا، بل يستعيد مشيئة إلهية مقدّسة، ليظهر أمام قاعدته المتدينة بأنه ليس مجرد رئيس حكومة… بل ظلّ الرب على الأرض.

لكن المتعارف عليه في التاريخ، أنه لا يغفر للقتلة الذين يكتبون نهاياتهم بنبوءات كاذبة. فإذا كان جدعون في الرواية القديمة انتصر بالخداع والإيمان، فإن نتنياهو اليوم، بتقديسه للدم، لا يسير في درب الأنبياء، بل أقرب إلى “شمشون الجبار”، ذاك الذي هدم المعبد على نفسه ومن فيه. كل خطوة في “عربات جدعون” تقرّب إسرائيل من تلك اللحظة، حين تتحول القوة المطلقة إلى كارثة لا يمكن احتواؤها.

 

المصدر: 

التطهير العرقي – إيلان بابي
وكالات أنباء 

رابط الحلقة:https://youtu.be/63QsBezJthw?si=pTyCzSYUbwFf663D

إعداد. عبد الرحمن الحمضيات

 

#تاريخنا_فلسطين

الوسوم :

التعليقات

لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات مشابهة

عرض جميع المقالات