كان مسلمة بن عبد الملك بن مروان أمير أموي وقائد عسكري من أفضل القادة العسكريين في التاريخ الإسلامي. خاض الكثير من المعارك والحروب ضد الإمبراطورية البيزنطية، والخزر، والجراجمة. بدأ الجهاد في سبيل الله منذ عهد أبيه عبد الملك بن مروان، واستمر خلال خلافة إخوته الأربعة: الوليد بن عبد الملك، سليمان بن عبد الملك، يزيد بن عبد الملك، وهشام بن عبد الملك. وكان حصاره للقسطنطينية من أبرز المعارك التي خاضها، حتى أنه كاد يفتحها لولا الطقس القاسي والمؤامرات التي تعرض لها الجنود المسلمين.
كما كان له دورًا بارزًا في القضاء على الخوارج والثورات التي قامت ضد الدولة الأموية مثل ثورة يزيد بن المهلب. وتركزت فتوحاته في منطقة أسيا الصغرى والقوقاز، وبذلك استطاع تأمين الحدود الشمالية الشرقية للدولة الأموية.
استمر جهاد مسلمة 35 عامًا، فشبهه المؤرخون بسيف الله المسلول خالد بن الوليد، واعتبروه من أعظم القادة العسكريين في التاريخ الإسلامي. وقد قال عنه الذهبي: “كان مسلمة أولى بالخلافة من إخوته”.
نسبه
اسمه: مسلمة بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس.
كنيته: أبو سعيد، وأبو الأصبغ.
أبوه: الخليفة عبد الملك بن مروان.
أمه: جارية غير معروف اسمها.
جده: الخليفة مروان بن الحكم.
إخوته الخلفاء: الوليد بن عبد الملك، سليمان بن عبد الملك، هشام بن عبد الملك، يزيد بن عبد الملك.
بقية إخوته: محمد، سعيد، مروان الأكبر، مروان الأصغر، عبد الله، معاوية، الحكم، بكار، المنذر، الحجاج، عنبسة، حمد.
أخواته: فاطمة بنت عبد الملك، وعائشة، وأم كلثوم.
زوجاته: الرباب بنت زُفَر بن الحارث الكلابية، أم سلمة المخزومية، الزَّعُوم بنت قيس بن محمد بن الأشعث بن قيس الكِنْدِيَّة.
أبناؤه: سعيد الأكبر، يزيد، شراحيل، إبراهيم، محمد، إسحاق، سعيد الأصغر، أبان.
نشأته
ولد مسلمة بن عبد الملك في قصر الخلافة بدمشق سنة 66 من الهجرة، خلال خلافة أبيه. وقد نشأ في ظروف وبيئة مليئة بالأحداث السياسية والعسكرية، فتأثرت شخصيته، وأصبح مؤهلًا من جميع النواحي. وتربى على أيدي كبار العلماء مثل، عامر الشعبي، والتابعي إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر المخزومي. وقد اختار عبد الملك هؤلاء العلماء لتربية أولاده، وأمرهم بشدة تأديبهم وعقابهم.
وقد حفظ مسلمة القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، كما تعلم أخبار العرب، وأتقن اللغة العربية والشعر والنثر. وأيضًا تدرب على فنون القتال من ركوب الخيل والرمي بالسهام والضرب السيوف والطعن بالرماح، وتعلم السباحة.
وبذلك يكون نشأ مسلمة على الدين والفقه، وعلى الفروسية في نفس الوقت. فصار شابًا مسلمًا وقائدًا عسكريًا لا مثيل له، وكان يشبه والده غير أنه لم يتولى الخلافة.
ويقول ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد: ولم يكن لعبد الملك ابن أسد رأيًا، ولا أزكي عقلًا، ولا أشجع قلبًا، ولا أسمع نفسًا، ولا أسخى كفًا من مسلمة.
ويقول عنه ابن تغري بردي: كان شجاعًا صاحب همة وعزيمة، وله غزوات كثيرة.
جهاد مسلمة بن عبد الملك
كانت حياة مسلمة بن عبد الملك عبارة عن جهاد في سبيل الله ومعارك وحروب، منذ حياة أبيه وحتى عهد أخيه هشام بن عبد الملك. وقد كان يغزو في العام مرة أو مرتين، منذ عام 86 هـ، وحتى عام 121 هـ، وهو العام الذي توفى فيه.
جهاده في حياة أبيه عبد الملك بن مروان
كانت أول مرة يخرج فيها مسلمة بن عبد الملك على رأس جيش، عندما ذهب إلى شمال القوقاز لفتح مدينة باب الأبواب أو دربند، بأمر من عمه محمد بن مروان والي أرمينية وأذربيجان. وعلى الرغم من صغر سنه، لكنه قاد 80 ألف جندي واستطاع فتح المدينة. ثم عاد محملًا بالغنائم، وظل برفقة عمه يحارب أهل القوقاز.
وخلال تواجد مسلمة في القوقاز، اجتمع الروم في القسطنطينية لمحاربة المسلمين. فأرسل الخليفة عبد الملك بن مروان إلى الولاة في الحجاز والعراق ومصر واليمن، كما أرسل إلى ابنه مسلمة وأخيه محمد بن مروان في القوقاز، وحشد جيشًا كبيرًا. وقد جعل عبد الملك ابنه مسلمة على رأس الجيش، ثم خطب قائلًا: “أيها الناس المسلمون! أنتم إخواني وأعواني، وهذا ابني مَسلمة وهو سيفي ورمحي وسهمي، وقد رميتُ به في نحر هذا العدوِّ، ورجوتُ أن يقضي الله به جيش الروم، فأعينوه واعضدوه وقوموا معه…”.
خرج مسلمة بن عبد الملك بالجيش وعسكر في مرج دابق، فأتاه الناس من كل مكان يتطوعون للجهاد، ثم خرج إلى أرض الروم. واستطاع فتح عدد من المدن على رأسهم طوانة أو تيانا، ومدينة عمورية، حسب ما ذكر البلاذري، وابن عثم الكوفي. لكن هناك بعض المؤرخين قالوا أنه فتحهم خلال عهد أخيه الوليد بن عبد الملك.
كما فتح مدينة بدروق، وقتل عددًا ضخمًا من الروم فهربوا إلى القسطنطينية. وقد غنم مسلمة عددًا لا يحصى من الغنائم، وزع قسم منها على الجيش، وأرسل الباقي إلى والده.
وكانت آخر فتوحاته في عهد والده غزوة الصائفة في صيف عام 86 هـ. وفي شوال سنة 86 من الهجرة، مات عبد الملك بن مروان، وقد أوصى أبنائه بمسلمة قائلًا: “وأكرموا مَسْلَمَة بن عبد الملِك؛ فإنه سِنُّكم الذي به تَتَزَيَّنون، ونابُكم الذي عنه تَفْتَرُّون، وسَيْفُكم الذي به تَصُولون، فاقْبَلوا قَوْلَه، واصْدُرُوا عن رأيه، وأَسْنِدوا جَسِيْم أمركم إليه”.
فتوحاته في عهد أخيه الوليد بن عبد الملك
في سنة 87 هـ، وهي السنة الأولى لخلافة الوليد، غزا مسلمة بن عبد الملك غزوة الصائفة ببلاد الروم. فغزا سوسنة، وفتح عدة قلاع وحصون مثل، حصن بولس وقمقيم وبحيرة الفرسان. ثم تقدم بجيشه، وقتل وأسر الكثير من الروم.
وفي سنة 88 من الهجرة، كان الخزر يخططون للهجوم على القوقاز، فلما علم الوليد أرسل إليهم مسلمة على رأس جيشه. وقيل أنه في طريقه فتح طوانة ومدينة جرثومة، وحصن قسطنطين وحصن غزالة وحصن الأخرم. وكان العباس بن الوليد بن عبد الملك برفقة عمه مسلمة، فقاتلا معًا الروم في أنطاكية لما اجتمعوا عليهم، فهزموهم وقتلوا منهم 50 ألف جندي. ثم تقدم مسلمة إلى أذربيجان وفتح مدينة دربند مرة أخرى.
وفي سنة 89 هـ، خرج مسلمة بن عبد الملك إلى أرض الروم في الصيف كالعادة. وكانت جهته هذه المرة إلى أكبر وأهم مدينة بيزنطية وهي عمورية. وقد نجح في دخولها عنوة، وقتل جنودها، وغنم غنائم كثيرة. وكانت غنائم عمورية تزيد على 200 ألف مثقال من الذهب والفضة، إضافة إلى الأمتعة والبغال والحمير.
وفي نفس العام فتح مسلمة حصن “سورية”. وذكر الواقدي أنه فتح عدة مدن أخرى مثل أسكدار، وأسكي شهير. وبعد انتهاء الصائفة غزا القوقاز مجددًا
وفي سنة 89 هـ، انقض مسلمة بن عبد الملك على الجراجمة، وفتح مدينتهم جرجومة واستسلموا له. والجراجمة أو المردة على المسلمين هم قوم مسيحيون يعيشون في جرجومة التي تقع على الحدود الإسلامية البيزنطية. وكان هؤلاء القوم يشكلون مصدر خطر للمسلمين، فأحيانًا كانوا يستسلمون وأحيانًا كانوا يتمردون ويساعدون الروم ويقطعون الطريق على جيوش المسلمين.
وظل مسلمة بن عبد الملك يغزوا أرض الروم كل عام. وفي سنة 91 هـ، عينه الوليد والي إمارة أرمينية وأذربيجان والجزيرة الفراتية. ثم أصبح قائد جند قنسرين.
وفي سنة 96 هـ، مات الوليد بن عبد الملك، وكان مسلمة في غزوة الصائفة بأرض الروم، والتي فتح خلالها حصن عوف.
حصار القسطنطينية في عهد سليمان بن عبد الملك
كان فتح القسطنطينية حلم الحكام المسلمين، وأراد سليمان بن عبد الملك أن يكون هو الفاتح الذي بشر به الرسول. لذلك خطط سليمان لغزو القسطنطينية، وبدأ في استشارة من حوله. وقيل أنه استشار موسى بن نصير في الأمر، فاقترح عليه أن يفتح أولًا المدن والحصون التي تقع على الطريق إلى هذه المدينة، حتى تضعف ويسهل فتحها. ثم استشار أخيه مسلمة بن عبد الملك، فاقترح عليه حصار القسطنطينية أولًا، فإذا أتم الله فتحها، فكل المدن ستفتح تباعًا.
أخذ سليمان برأي أخيه مسلمة، ثم بدأ يجهز الجيش فجمع 120 ألف مقاتل من الشام وسوريا والموصل. وأرسل أهل مصر وأفريقية ألف مركب عليهم عمر بن هبيرة. وخرج الجيش وعلى رأسه مسلمة بن عبد الملك، ومعه داوود بن سليمان بن عبد الملك، وكان ذلك عام 97 هـ. ثم خرج سليمان ونزل في مرج دابق قرب حلب، فاجتمع الناس حوله، وجاءه المتطوعون بأعداد لا حصر لها.
وصل مسلمة بالجيش الإسلامي إلى القسطنطينية وفرض عليها الحصار. ثم وصل الأسطول الإسلامي وعبر مضيق الدردنيل، وكان ذلك خلال فصل الصيف. نجح مسلمة في عزل القسطنطينية تمامًا عن المدن والبلاد المحيطة. واعتمد على الأسطول البحري في غلق مضيق البسفور، وقطع أي صلة بين العاصمة البيزنطية والبحر الأسود. لكن قيل أن الأسطول انحرف من مكانه بسبب الرياح، ثم هاجمه البيزنطيون بالنار الإغريقية. وذُكِر أيضًا أن البيزنطيين استخدموا سلسلة كبيرة بين المدينة وغلطة لغلق مدخل القرن الذهبي.
وبالنسبة للجيش البري، فقد كان مجهزًا بشكل جيد، حتى تراكمت الإمدادات داخله. ونصب مسلمة بن عبد الملك المنجنيق على المدينة، لكن أسوار القسطنطينية صمدت بفضل قوتها ومناعتها.
لكن مع دخول فصل الشتاء انقلبت الأمور، وغطت الثلوج الأرض لأكثر من 3 أشهر. ومع الوقت نقصت الإمدادات، وتعرض الجنود لمجاعة جعلتهم يأكلون الخيول والجمال وحتى أوراق الشجر. ومات في هذه المجاعة أعداد مهولة من الجنود، وتبالغ المصادر الغربية في الرقم، فبعضها قال هلك 300 ألف جندي مسلم.
ولم يستطيع الأسطول تطويق الجهة الشمالية للعاصمة، لذلك عبرت إليها المساعدات والمؤن من البحر الأسود. ثم تعرض مسلمة للخديعة، حيث اتفق الإمبراطور الرومي ليو الثالث الإيساوري مع البلغار. فأرسل البلغار إلى مسلمة يعرضون عليه المساعدة وتقديم المؤون. أرسل مسلمة من يتسلم هذه المؤون، لكنه كان كمينًا، وقُتِل فيه عدد كبير من الجنود، وصل إلى 15 ألف جندي، حسب المصادر اليونانية.
أرسل مسلمة إلى أخيه سليمان وأخبره بالأمر، فأرسل له جيشًا بقيادة شرحبيل بن عبيدة. عبر هذا الجيش إلى بلاد البرجان أولًا، واقتصوا من ملكهم وقتلوا منهم أعدادًا كبيرة، وخلصوا أسرى المسلمين. كما وصلت الإمدادات من مصر وإفريقية، لكن كل ذلك لم يغير مجريات الأمور. وظلت أسوار القسطنطينية عصية على الغزاة والفاتحين لقرون طويلة، وتراجع المسلمون.
لما مات سليمان بن عبد الملك، تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة، وأرسل كتابًا إلى مسلمة يأمره بالعودة. عاد الجيش الإسلامي إلى دمشق في ذي الحجة عام 99 من الهجرة.
القضاء على ثورة يزيد بن المهلب
سنة 101 من الهجرة، قام يزيد بن المهلب بن أبي صفرة بالثورة على الدولة الأموية خلال عهد يزيد بن عبد الملك. واستطاع السيطرة على البصرة ونواحي من العراق والأهواز وخراسان. وفي سنة 102 هـ، خرج إليه مسلمة بن عبد الملك، بعد أن جمع 50 ألفًا من أهل الشام والجزيرة الفراتية. ثم قضى على ثورته، وقتله وقتل آل المهلب.
فتوحات مسلمة بن عبد الملك في عهد أخيه هشام بن عبد الملك
عاد مسلمة للغزو الخارجي مجددًا بعد تولية أخيه هشام بن عبد الملك. وتركزت غزواته على الروم والخزر. وفي سنة 107 هـ، تولى إمارة أرمينية وأذربيجان بعد أن عزل هشام عاملها الجراح بن عبد الله الحكمي.
ترك مسلمة على ولايته نائبًا عنه، وخرج لغزو الروم برفقة ابن أخيه معاوية بن هشام ( والد عبد الرحمن الداخل). وغزا الاثنان أرض الروم برًا وبحرًا حتى وصلا إلى قبرص. وفتح مسلمة قيسارية مجددًا.
وخلال ذلك استغل الخزر الفرصة وغزوا أذربيجان سنة 109 هـ، فتوجه إليهم وقاتلهم وانتصر عليهم. وفي عام 113 هـ، استطاع فتح قلعة حيزان التي كان يسكنها 1000 جندي خزري. وبعد ذلك ما مر على مدينة أو بلد حتى خرج له ملكها يصالحه إكرامًا له.
وبعد أن هزم خاقان الخزر، توجه إلى مدينة دربند أو باب الأبواب، فنجح بفتحتها بمساعدة رجل خزري، بعد أن استعصت عليه. ثم ترك عليها ابن عمه مروان بن محمد، وتوجه إلى الشام، ووصل إليها سنة 114 هـ. وتوقف مسلمة عن الغزو لمدة 6 سنوات، بعد أن عزله هشام وعين مكانه ابن عمه مروان بن محمد. وابتعد مسلمة عن الساحة السياسية والعسكرية والإدارية لفترة من الوقت، ويرجح المؤرخون أن السبب هو تدهور صحته.
وفي سنة 121 هـ، عاد مسلمة بن عبد الملك للغزو من جديد، فتوجه إلى أرض الروم وفتح ملطية والكثير من الحصون. ومات في نفس العام، وكان عمره 54 سنة، ودفن في قنسرين. وكانت وفاته مفاجئة بدون مرض، فحزن عليه الجميع ورثاه الشعراء.
المصادر:
ابن الأثير: الكامل في التاريخ.
تاريخ الطبري، ج3.
أحمد بن أعثم الكوفي: كتاب الفتوح.
البلاذري: أنساب الأشراف.
ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم.
الذهبي: سير أعلام النبلاء.
ابن عساكر: تاريخ دمشق.
محمد سهيل طقوش: تاريخ الدولة الأموية.
ابن كثير: البداية والنهاية.
ابن عبد ربه: العقد الفريد.
تاريخ بن خياط.
الأصفهاني: الأغاني.
التعليقات
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!
اترك تعليق