نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم، في غار حراء كان بداية للنور الذي أشرق ظلمات الأرض. لقد كانت الجزيرة العربية منبعًا لعبادة الأوثان والشرك بالله والعادات الجاهلية، فأرسل الله رسولًا منهم، يتحدث لغتهم، بآيات دقة في الفصاحة والبلاغة. ولم يكن محمد بن عبد الله نبي لقوم أو منطقة مكانية معينة، بل كان رسولًا للعالمين وخاتمًا للمرسلين.
عمر الرسول عند نزول الوحي
نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، عندما أتم الأربعين من عمره، وكان وقتها يتعبد في غار حراء. وكان تاريخ نزوله يوم الاثنين 12 رمضان، الموافق 10 أغسطس سنة 610 ميلاديًا. وقبل البعثة النبوية لم يعبد رسول الله الأصنام قط، فكان يتعبد في غار حراء ويختلي بنفسه ليفكر ويتأمل. كما عرف بين قريش بصدقه وأمانته، فكان لقبه الصادق الأمين.
قصة نزول الوحي
نزل الوحي على سيدنا محمد، وهو يتعبد في غار حراء خلال ليلة من ليالي شهر رمضان الكريم. حيث نزل جبريل عليه السلام، وقال للنبي “اقرأ”، فقال صلى الله عليه وسلم “ما أنا بقارئ”، أي لا أعرف القراءة والكتابة، فقد كان رسول الله أميًا. فأخذه جبريل وضمه بشده، وقال “اقرأ”، فقال النبي “ما أنا بقارئ”. ثم أخذه جبريل مرة ثانية وضمه ضمة شديدة، وقال “اقرأ”، فقال “ما أنا بقارئ”. فأخذ النبي مرة ثالثة وضمه بقوة، وقال ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم، لا يرى رؤيا إلا تحققت، فكانت الرؤيا الصادقة تمهيدًا لنزول الوحي عليه. فعن عائشة رضي الله عنها قالت (أَوَّلُ ما بُدِئَ به رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ في النَّوْمِ؛ فَكانَ لا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ…).
موقف السيدة خديجة مع الرسول عند نزول الوحي
كانت السيدة خديجة رضي الله عنها، تهتم بشؤون بيتها وتربي أبنائها، بينما كان النبي يتعبد في غار حراء. وكانت تعينه على ذلك وتزوده بالطعام والشراب، وتذهب إليه في الغار كلما سنحت لها الفرصة. وبعدما نزل الوحي لأول مرة على رسول الله، غادر الغار وهو يترجف من شدة الخوف، وعاد إلى بيته. ولما دخل على خديجة رضي الله عنها قال “زملوني زملوني”، فزملوه حتى ذهب عنه الخوف.
ثم أخبر خديجة بما حدث معه، وقال لها “لقد خشيت على نفسي”، فقالت رضي الله عنها “كلا، والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق”.
بعدما هدأت خديجة من روع زوجها وحبيبها رسول الله، أخذته وذهبت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل. وكان ورقة حبرًا وعالمًا بالأديان السماوية، ودخل النصرانية في الجاهلية. فأخبروه بما حدث في غار حراء، فقال لهم “يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله: أو مُخرِجِيَّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا”. لم يدرك ورقة بعثة النبي ومات قبل إعلان دعوته، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه “لاَ تَسُبُّوا وَرَقَةَ؛ فَإِنِّي رَأَيْتُ لَهُ جَنَّةً أَوْ جَنَّتَيْنِ”.
هيئة جبريل عند نزول الوحي على الرسول
كان سيدنا جبريل عليه السلام، ينزل على هيئة الصحابي دحيّة الكلبيّ، وكانت هيئته جميلة، فكان جسيمًا أبيضًا. وكان الصحابة رضوان الله عليهم يرونه على هذه الهيئة، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال (أنَّ جِبْرِيلَ، أتَى النبيَّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وعِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ، فَجَعَلَ يَتَحَدَّثُ، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِأُمِّ سَلَمَةَ: مَن هذا؟ أوْ كما قالَ، قالَتْ: هذا دِحْيَةُ، فَلَمَّا قَامَ، قالَتْ: واللَّهِ ما حَسِبْتُهُ إلَّا إيَّاهُ، حتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُخْبِرُ خَبَرَ جِبْرِيلَ، أوْ كما قالَ).
كما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم، رأى أمين الوحي جبريل بهيئته الملائكية مرتان. المرة الأولى عندما كان في غار حراء، فنزل جبريل بهيئته الحقيقية، وسد الأفق بجناحه، حيث كان له 600 جناح. والمرة الثانية ليلة الإسراء والمعراج في السماء، قال تعالى (وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ).
وصف نزول الوحي
ينزل الوحي من خلال الملائكة، ويعد جبريل هو أمين الوحي، فكان يأتي على صورة بشر، وأيضًا على صورته الملائكية.
وتعد صلصة الجرس مرتبة من مراتب نزول الوحي، وكانت أشدها على النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال “أحْيانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ، وهو أشَدُّهُ عَلَيَّ، فيُفْصَمُ عَنِّي وقدْ وعَيْتُ عنْه ما قالَ”.
ويعتبر الإلهام أيضًا شكلًا من أشكال الوحي، حيث يقذف الله في قلب النبي بلا ملك أو واسطة.
وهناك أيضًا الكلام من وراء حجاب، بحيث يسمع النبي كلام الله دون أن يراه. قال تعالى (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ).
انقطاع نزول الوحي
بعدما نزل الوحي على رسول الله في غار حراء، وأخبره ورقة بن نوفل بأنه نبي، أراد التأكد من نبوته، وانتظر نزول جبريل مرة ثانية. لكن انقطع نزول الوحي، وظل النبي يترقب وينتظر، ويذهب إلى الغار ويسير بين الجبال منفردًا. يقول العلماء انقطع الوحي عن النبي أربعين يومًا وهناك من يقول أقل من ذلك .
ويحكي النبي عن هذه الفترة ويقول في الحديث الشريف “بيْنَما أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ عَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ أَمَامِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، ثُمَّ نُودِيتُ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي إلى السماء، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ حَتَّى هَوِيتُ عَلَى الأَرْضِ، فَرَجَعْتُ حَتَّى أَتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، دَثِّرُونِي دَثِّرُونِي، وَصُبُّوا عَلَيَّ ماءً باردًا”. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قوله ﴿يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾.
هذه الآيات هي أمر من الله لنبيه بتبليغ رسالته، فتحول صلى الله عليه وسلم من الشك إلى اليقين وتأكد من نبوته. وبدأ رحلة الدعوة الشاقة والثقيلة لمدة 23 عامًا، قال تعالى ﴿إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾. كانت السيدة خديجة أول من آمن بالنبي من النساء، وعلي بن أبي طالب من الصبيان، وزيد بن حارثة من الموالي، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه. استمرت سرية الدعوة 3 سنوات، ثم أمر الله نبيه بالجهر بها، فبدأ فصل جديد مليء بحقد ومعاداة قريش.
لماذا تأخر نزول الوحي على الرسول؟
بعدما نزل جبريل عليه السلام لأول مرة بالوحي، خاف النبي بشدة وعاد مرتجفًا إلى زوجته خديجة. لذلك انقطع الوحي فترة حتى يهدأ رسول الله، رحمة به وتخفيفًا عليه. وحتى يتشوق أيضًا لنزوله مرة ثانية، ويزداد إيمانًا وتثبيتًا.
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله “وَفُتُورُ الْوَحْيِ : عِبَارَةٌ عَنْ تَأَخُّرِهِ مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ ، وَكَانَ ذَلِكَ لِيَذْهَبَ مَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَهُ مِنَ الرَّوْعِ ، وَلِيَحْصُلَ لَهُ التَّشَوُّفُ إِلَى الْعَوْدِ”.
المصادر:
ابن الأثير: أسد الغابة في معرفة الصحابة.
ابن سعد: الطبقات الكبرى.
البلاذري: أنساب الأشراف.
ابن كثير: البداية والنهاية.
الذهبي: سير أعلام النبلاء.
سيرة ابن هشام.
الطبري: تاريخ الأمم والملوك.
ابن الأثير: الكامل في التاريخ.
التعليقات
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!
اترك تعليق
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *