كان هرثمة بن أعين أحد أبرز القادة العسكريين والإداريين في العصر العباسي الأول. وقد برزت أسرته في خدمة الدولة العباسية منذ أيامها الأولى. نشأ هرثمة في بيئة عسكرية، حيث تدرّب على الفنون القتالية والإدارة الحربية منذ صغره. يذكر البلاذري في “أنساب الأشراف” أن هرثمة تلقى تعليمه في البصرة، التي كانت مركزًا عسكريًا وعلميًا مهمًا في تلك الفترة.
صعوده العسكري في عهد المهدي والهادي
بدأ هرثمة مسيرته العسكرية في عهد الخليفة المهدي (158-169هـ)، حيث شارك في عدة حملات على الحدود البيزنطية. ثم برز نجمه في عهد الهادي (169-170هـ)، عندما عُين قائدًا للحرس الخليفي. يذكر الطبري في تاريخه أن هرثمة لعب دورًا حاسمًا في قمع عدة تمردات ضد الخلافة في تلك الفترة، مما أكسبه ثقة البلاط العباسي.
دوره المحوري في عهد هارون الرشيد
بلغت مكانة هرثمة ذروتها في عهد هارون الرشيد (170-193هـ)، حيث أصبح أحد أركان الدولة الأساسيين. وعينه الرشيد واليًا على عدة أقاليم مهمة، بما في ذلك مصر (178-179هـ/794-795م) حيث أظهر كفاءة إدارية لافتة. يذكر الكندي في “ولاة مصر” أن هرثمة نظم شؤون الإقليم الماليّة والعسكريّة بشكل ممتاز.
لكن أهم أدوار هرثمة كان في الشرق، حيث عينه الرشيد واليًا على خراسان (192هـ/808م) لمواجهة التمردات هناك. يصفه المسعودي في “مروج الذهب” بأنه كان “من دهاة العرب وشجعانهم”، حيث استطاع إعادة الاستقرار إلى المنطقة بسياسة تجمع بين القوة والحكمة.
دور هرثمة بن أعين في أزمة الأمين والمأمون
عندما توفي هارون الرشيد سنة 193هـ، وجد هرثمة نفسه في موقف بالغ الحساسية. كان واليًا على خراسان الموالية للمأمون، بينما كانت ولاءاته الشخصية تميل إلى الأمين في بغداد. يذكر ابن الأثير في “الكامل” أن هرثمة حاول التوسط بين الأخوين، لكن الأمين استدعاه إلى بغداد حيث سجنه سنة 195هـ/811م.
ظل هرثمة في السجن حتى سقوط بغداد بيد قوات المأمون سنة 198هـ/813م. عندها أطلقه المأمون وأعاده إلى مناصبه السابقة تقديرًا لمكانته وخبرته. يروي الطبري أن هرثمة أصبح المستشار العسكري الرئيسي للمأمون في السنوات الأولى من خلافته.
لكن هناك من يقول أن هرثمة شارك في حصار بغداد مثل ابن تغري بردي. وهناك روايات تقول أنه أطلق سراحه خلال الحصار وانقلب على الأمين وانضم للحصار.
ولايته على العراق وصراعه مع الطاهريين
عين المأمون هرثمة واليًا على العراق سنة 198هـ/813م. وهي المهمة الصعبة التي تطلبت إعادة بناء الإقليم بعد الدمار الذي خلفته الحرب الأهلية. وفقًا لابن خلدون في “المقدمة”، نجح هرثمة في إعادة الاستقرار إلى العراق عبر سياسة التسامح وإصلاح النظام الإداري والمالي.
مع صعود نجم طاهر بن الحسين وميل المأمون إلى الاعتماد على القادة الفرس الجدد، بدأ نفوذ هرثمة يتضاءل. يذكر الجهشياري في “كتاب الوزراء” أن هرثمة دخل في صراع خفي مع طاهر بن الحسين على النفوذ في البلاط العباسي.
نهايته المأسوية
انتهت حياة هرثمة بن أعين بنهاية مأساوية سنة 200هـ/816م، عندما اتهمه المأمون بالتواطؤ مع تمرد في العراق. يروي ابن كثير في “البداية والنهاية” أن المأمون أرسل من قتله غدرًا، رغم خدماته الجليلة للدولة. وقد أثارت هذه الحادثة استياءً كبيرًا في الأوساط العربية بالعراق.
تقييم المؤرخين لهرثمة بن أعين
يقدم المؤرخون صورة متوازنة لهرثمة بن أعين. من ناحية، يثنون على كفاءته العسكرية والإدارية. يصفه الذهبي في “سير أعلام النبلاء” بأنه كان “شجاعًا، حازمًا، عاقلًا، سائسًا”. ومن ناحية أخرى، ينتقد بعضهم تردده في أزمة الصراع بين الأمين والمأمون.
ويعد هرثمة نموذجًا للقائد العسكري العربي الذي خدم الدولة العباسية بإخلاص، لكنه وقع ضحية للتحولات السياسية الكبرى في عصر المأمون. يرى الدكتور حسين عطوان في كتابه “القيادة العسكرية في العصر العباسي الأول” أن هرثمة كان آخر القادة العرب الكبار الذين لعبوا دورًا محوريًا في الجيش العباسي قبل سيطرة العناصر الفارسية والتركية.
اقرأ أيضًا: سليمان بن صرد الخزاعي
المصادر:
الطبري: تاريخ الأمم والملوك.
المسعدي: مروج الذهب.
ابن الأثير: الكامل في التاريخ.
ابن كثير: البداية والنهاية.
البلاذري: أنساب الأشراف.
الكندي: كتاب الولاة والقضاة.
الجهشياري: كتاب الوزراء.
الذهبي: سير أعلام النبلاء.
حسين عطوان: القيادة العسكرية في العصر العباسي الأول.
التعليقات
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!
اترك تعليق