يُعدُّ الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل ثالث أمراء الأندلس من أكثر حكام الأندلس إثارةً للجدل. حيث جمع بين القوة العسكرية والصرامة في الحكم، مما جعل فترة ولايته مرحلةً حاسمة في تاريخ الدولة الأموية في الأندلس. تميز عهده بكثرة الثورات ضده، والتي واجهها بقسوة بالغة. كما شهدت فترة حكمه تطورات مهمة في البنية العسكرية والإدارية للدولة.
نسبه
ينتمي الحكم بن هشام إلى الأسرة الأموية الحاكمة في الأندلس، فهو حفيد عبد الرحمن الداخل، مؤسس الدولة الأموية في الأندلس. كانت أسرته تتمتع بنفوذ قوي، حيث تربى في كنف والده هشام بن عبد الرحمن، الذي هيأه لتحمل المسؤولية منذ صغره. وأما أمه فجارية تسمى زخرف.
كان الحكم يكنى بأبي العاص، وأما لقبه فهو الحكم الربضي. وكان له الكثير من الذرية، فوصل عدد أولاده الذكور إلى 18 ولدًا، وبناته 21 فتاة.
نشأته وتربيته
نشأ الحكم الربضي في بلاط قرطبة، حيث تلقى تعليمًا راقيًا شمل العلوم الدينية، والفقه، والشعر، والفروسية. وعُرف عنه الذكاء الحاد والميل إلى العزلة، كما ورث عن أسلافه الحزمَ والصرامة في إدارة الدولة. كان والده هشام يثق به ثقةً كبيرةً، فعهد إليه ببعض المهام العسكرية والإدارية في فترة شبابه.
صفاته الشخصية
تميز الحكم بن هشام بشخصية قوية ومعقدة، جمعت بين الذكاء السياسي الحاد والقسوة غير المسبوقة في بعض الأحيان. كان رجلاً طويل القامة، مهيب الطلعة، يتمتع ببصيرة ثاقبة في قراءة التحولات السياسية، لكنه عُرف أيضًا بتقلب مزاجه ونزواته المفاجئة.
كما امتلك الحكم ثقافة واسعة، حيث كان شغوفًا بالأدب والشعر، وكان يحفظ عددًا كبيرًا من القصائد والأشعار. لكن هذا الجانب الثقافي لم يمنعه من اتخاذ قرارات دموية عندما شعر أن سلطته مهددة.
ومن أهم صفاته الشك والرغبة الجامحة في السيطرة، حيث لم يثق حتى بأقرب المقربين إليه. وعُرف عنه ميله للعزلة، فكان يقضي ساعات طويلة في قصره محاطًا بحراسه الشخصيين من الصقالبة الذين شكلوا درعه الواقي. ورغم قسوته المعروفة، أظهر في بعض المواقف دهاءً سياسيًا كبيرًا.
ورغم ذكر البعض انغماسه في الملذات وشرب الخمر، لكن المصادر التاريخية لا تذكر بشكل صريح أنه كان يفعل ذلك.
تولي الحكم بن هشام إمارة الأندلس
عندما توفي هشام بن عبد الرحمن عام 180هـ، خلفه ابنه الحكم، لكن توليه الحكم لم يكن سلسًا. فقد طالب بالحكم عمه سليمان بن عبد الرحمن، الذي كان لا يزال حيًا، كما ظهرت معارضة من بعض القبائل العربية التي رأت في الحكم حاكمًا متشددًا.
كان صراع الحكم بن هشام مع أعمامه سليمان وعبد الله من أشد التحديات التي واجهها في بداية حكمه. حيث شكلت هذه المواجهات اختبارًا حقيقيًا لمقدرته السياسية والعسكرية على الاحتفاظ بالسلطة.
لم يكن سليمان مجرد منافس عادي، بل كان يتمتع بخبرة عسكرية وسياسية كبيرة. حيث سبق أن ثار على أخيه هشام في السابق، مما جعله يشكل تهديدًا حقيقيًا لاستقرار الحكم الجديد.
واجه الحكم هذا التحدي بحنكة بالغة، حيث أدرك أن المواجهة العسكرية المباشرة قد تكون محفوفة بالمخاطر، فاتبع استراتيجية أكثر دهاءً. قام أولًا بتأمين ولاء الجيش والموالي، ثم حرص على عزل سليمان عن قواعده الشعبية. وعندما شعر بأن القوة العسكرية أصبحت في صفه، شن هجومًا مباغتًا على قوات سليمان وهزمها في معركة حاسمة. واستطاعت قواته أسر عمه سليمان، ثم قتله لاحقًا عام 184 هـ.
أما فيما يتعلق بعمه عبد الله بن عبد الرحمن، فقد اختلفت طبيعة الصراع معه، حيث كان أقل طموحًا سياسيًا من سليمان. وقد أظهر الحكم جانبًا من المرونة السياسية، حيث عفا عنه بعد استسلامه. لكنه وضعه تحت الإقامة الجبرية في قرطبة حيث يمكنه مراقبته عن كثب.
هذه المعاملة المختلفة تعكس فهم الحكم الدقيق لاختلاف طبيعة التهديد الذي يمثله كل من أعمامه. حيث رأى في سليمان تهديدًا وجوديًا يجب استئصاله، بينما اعتبر عبد الله منافسًا يمكن تحييده دون الحاجة إلى التصفية الجسدية.
الثورات التي واجهها
قامت ضد الحكم بن هشام العديد من الثورات، اعتراضًا على طريقته في الحكم. فثار الناس عليه في ضواحي قرطبة، وثار عليه البربر:
ثورة ضاحية الربض
تُعدُّ ثورة الربض التي وقعت في 13 رمضان سنة 202 هـ، من أشهر الثورات التي واجهها الحكم بن هشام. حيث قام سكان ضاحية الربض في قرطبة بتمردٍ كبيرٍ احتجاجًا على سياساته القمعية. وقد شارك في الثورة عدد كبير من العلماء والفقهاء مثل يحيى بن يحيى الليثي وعيسى بن دينار.
لكن قمع الحكم التمرد بوحشية، بعد استمراره 3 أيام. حيث أعدم المئات ونفي آلافًا منهم إلى فاس في المغرب. وقد هدم الربض الجنوبي وتشرد أهله خارج قرطبة، وعرفت هذه الواقعة بوقعة الربض، وإليها يعود تسميته بالحكم الربضي.
تمردات القبائل
واجه الحكم أيضًا سلسلةً من التمردات القبلية، خاصةً في طليطلة وسرقسطة، حيث استغل بعض الزعماء المحليين عدم الرضا عن حكمه لمحاولة الاستقلال. واستخدم الحكم سياسة القوة المفرطة في قمع هذه التمردات، مما أدى إلى إخمادها واحدًا تلو الآخر.
سقوط برشلونه في عهد هشام بن الحكم
سقطت برشلونة في عهد الحكم بن هشام عام 185هـ، بعد حصار طويل دام عدة أشهر. حيث تمكنت القوات الفرنجية بقيادة لويس الورع نجل شارلمان من اختراق دفاعات المدينة. جاء سقوط برشلونة نتيجة لسياسة الحكم بن هشام المركزية التي أهملت الثغور الشمالية، فقد كان مشغولاً بقمع الثورات الداخلية في قرطبة وطليطلة. كما أن انشغال الدولة الأموية في الأندلس بالصراعات الداخلية أعطى الفرصة للمملكة الفرنجية لتعزيز نفوذها في المنطقة.
لم يحاول الحكم بن هشام استعادة برشلونة عسكريًا، بل فضّل التركيز على توطيد حكمه في المناطق الداخلية. وكان سقوط المدينة ضربة قاسية للوجود الإسلامي في الشمال الشرقي للأندلس، حيث تحولت برشلونة إلى قاعدة فرنجية متقدمة ضد المسلمين. هذا الحدث مثّل بداية تراجع الحدود الشمالية للأندلس الإسلامية، وأظهر ضعف السيطرة المركزية في عهد الحكم بن هشام على الأطراف البعيدة عن قرطبة.
أهم أعمال الحكم بن هشام
عزز الحكم بن هشام الجيشَ الأندلسيَّ، حيث وسع من استخدام المماليك والصقالبة، مما قلل اعتماده على القبائل العربية المتمردة. كما طور الأسطول البحري لحماية السواحل من هجمات الممالك المسيحية.
أيضًا، اهتم الحكم بالعمران، حيث وسع قصر الإمارة في قرطبة، وبنى الأسوار الدفاعية حول المدينة. كما طور نظامَ الري في الأرياف لتعزيز الزراعة.
وعُرف عن الحكم تشدده في تطبيق المذهب المالكي، حيث عين الفقهاء المالكيين في مناصب القضاء، وقمع أي معارضة دينية. ومع ذلك، كان يدعم العلماءَ الموثوق بهم، مما ساهم في استمرار الحركة العلمية في قرطبة.
وفاته ونهاية عهده
توفي الحكم بن هشام عام 206هـ بعد حكم دام 26 عامًا. وخلفه ابنه عبد الرحمن الأوسط، الذي استفاد من إنجازات والده العسكرية والإدارية لبدء عهد جديد من الاستقرار.
ترك الحكم بن هشام إرثًا متناقضًا؛ فمن ناحيةٍ، نجح في الحفاظ على وحدة الدولة وقمع الفتن، لكن من ناحيةٍ أخرى، خلّفت سياسته القمعية استياءً كبيرًا بين السكان. ويُذكر في التاريخ كحاكم قوي لكنه مستبد، وضع أساسات الدولة التي ستزدهر لاحقًا في عهد خلفائه.
اقرأ أيضًا: معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
المصادر:
ابن عذاري المراكشي: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب.
ابن حيان القرطبي: المقتبس من أنباء أهل الأندلس.
المقري التلمساني: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب.
الحميدي: جذوة المقتبس في تاريخ علماء الأندلس.
ليفي بروفنسال: تاريخ إسبانيا الإسلامية.
التعليقات
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!
اترك تعليق