تمثل الدولة العباسية (132-656هـ/750-1258م) أحد أطول العصور الإسلامية عمرًا وأكثرها تأثيرًا في التاريخ الإسلامي. أسسها أبو العباس السفاح بعد الإطاحة بالدولة الأموية، وشهدت تحولات كبرى في النظام السياسي والحضاري للإسلام. ومرت الدولة بعصور من القوة إلى الضعف، ونشأ تحت ظلها دويلات في المشرق والمغرب وبلاد الشام. وسقطت في النهاية على يد السلطان العثماني سليم الأول سنة 1517 م.
العصر العباسي الأول: عصر التأسيس والقوة (132-232هـ)
يمثل العصر العباسي الأول مرحلة التأسيس والازدهار للدولة العباسية، حيث شهدت هذه الدولة تحولات جذرية في بنية الحكم الإسلامي. بدأت هذه الحقبة التاريخية بإعلان قيام الدولة على يد أبي العباس السفاح في الكوفة عام 132هـ/750م، بعد انتصاره الحاسم على الأمويين في معركة الزاب الكبرى.
يُعتبر أبو جعفر المنصور (136-158هـ) المؤسس الحقيقي للدولة العباسية، حيث قام بعدة إجراءات حاسمة لترسيخ أركان الحكم. ومن أبرز إنجازاته تأسيس مدينة بغداد عام 145هـ/762م، التي أصبحت عاصمة العالم الإسلامي ودرة مدن الشرق. يذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد أن المنصور أنفق عليها ما يقارب خمسة ملايين درهم، مما جعلها تحفة معمارية فريدة.
وشهد عهد هارون الرشيد (170-193هـ) ذروة القوة العباسية، حيث امتدت حدود الدولة من الأندلس غربًا إلى حدود الصين شرقًا. كما يوثق ابن خلدون في كتاب العبر كيف طور الرشيد النظام الإداري وأنشأ ديوانًا خاصًا لشؤون الولايات. وقد ازدهرت في عصره حركة الترجمة والنقل عن الحضارات الأخرى، خاصة في بيت الحكمة الذي أصبح منارة للعلماء.
وفي عهد المأمون (198-218هـ)، بلغت النهضة العلمية ذروتها، حيث شجع الخليفة حركة الترجمة من اليونانية والفارسية. كما أرسل بعثات علمية لجلب الكتب من الإمبراطورية البيزنطية. وطور العلماء المسلمون في هذا العصر علوم الفلك والرياضيات والطب، حيث برزت أسماء مثل الخوارزمي في الجبر وحنين بن إسحاق في الترجمة.
تميز هذا العصر أيضًا بتطور النظام العسكري، حيث أسس المعتصم (218-227هـ) جيشًا من المماليك الأتراك. وقد نقل العاصمة إلى سامراء عام 221هـ لأسباب استراتيجية وعسكرية.
وعلى الصعيد الاقتصادي، شهدت الدولة ازدهارًا كبيرًا في الزراعة والتجارة. حيث طور العباسيون نظام الري وأنشأوا الطرق التجارية. ويذكر ابن خرداذبة في كتاب المسالك والممالك كيف ازدهرت التجارة بين الشرق والغرب عبر طرق برية وبحرية آمنة.
العصر العباسي الثاني: عصر سيطرة الأتراك (232-334هـ)
شهد العصر العباسي الثاني تحولًا جذريًا في موازين القوة داخل الدولة العباسية، حيث انتقلت السلطة الفعلية من الخلفاء إلى القادة الأتراك. يذكر الطبري في تاريخه أن هذه الفترة بدأت بشكل واضح بعد مقتل الخليفة المتوكل على الله سنة 247هـ، الذي كان آخر خليفة يحاول مقاومة النفوذ التركي المتزايد.
تميز هذا العصر بسيطرة العناصر التركية على مقاليد الحكم، حيث أصبح الخلفاء مجرد دمى في أيدي قادتهم العسكريين. وفقًا لما أورده المسعودي في مروج الذهب، فإن الأتراك كانوا “يعينون الخلفاء ويعزلونهم ويقتلونهم حسب أهوائهم”. وقد تجلى هذا الأمر بوضوح في حادثة خلع الخليفة المستعين بالله سنة 251هـ، حيث أجبره القادة الأتراك على التنازل عن الحكم بعد حصار دامي لقصره.
وشهدت هذه الفترة سلسلة من الأزمات السياسية والاقتصادية الحادة. يذكر ابن الأثير في الكامل أن الخزينة العامة تعرضت للإفلاس عدة مرات بسبب مطالب الجنود الأتراك المتزايدة بالرواتب والامتيازات. كما انتشرت الفوضى في أرجاء الدولة، حيث كان القادة الأتراك ينهبون أموال الدولة وينفقونها على حاشيتهم وجنودهم.
وفي الجانب العسكري، تحول الجيش العباسي إلى قوة غير منضبطة. يصف الذهبي في سير أعلام النبلاء كيف أن الجنود الأتراك كانوا “يثورون عند أدنى تأخير في رواتبهم، فيقومون بنهب الأسواق وترويع السكان”. وقد أدى هذا الوضع إلى إضعاف هيبة الدولة وتراجع سلطتها المركزية.
وعلى الصعيد الإداري، فقدت مؤسسات الدولة الكثير من كفاءتها. وأصبح تعيين الولاة وعزلهم يتم بناء على رغبات القادة الأتراك دون مراعاة للكفاءة أو العدالة. يذكر ابن طباطبا في الفخري أن “الولاة كانوا يتصرفون كحكام مستقلين، يهمهم فقط جمع الأموال وإرضاء الأتراك”.
العصر العباسي الثالث: نفوذ البويهيين (334-447هـ)
شهدت الدولة العباسية خلال العصر العباسي الثالث تحولًا جذريًا في طبيعة الحكم مع صعود نفوذ البويهيين. حيث دخلت الخلافة العباسية مرحلة جديدة من التبعية السياسية. يذكر ابن الأثير في الكامل أن دخول معز الدولة البويهي بغداد سنة 334هـ، مثل “نهاية الاستقلال الفعلي للخلافة العباسية”. حيث أصبح الخلفاء تحت السيطرة الكاملة للبويهيين الذين احتفظوا بهم كرموز دينية وسياسية.
وتميزت سيطرة البويهيين بعدة سمات رئيسية، أهمها احتفاظهم بالخلفاء العباسيين مع تجريدهم من السلطة الفعلية. حيث كان البويهيون يتخذون القرارات السياسية والعسكرية بينما يقتصر دور الخليفة على الأمور الدينية والشكليات الرسمية. وقد برز هذا جليًا في عهد الخليفة الطائع لله (363-381هـ) الذي كان مجرد صورة رمزية للحكم.
كما أدخل البويهيون العديد من التغييرات في طقوس البلاط ونظام الحكم. وفقًا لما يذكره ابن الجوزي في المنتظم، فإنهم أدخلوا العادات والتقاليد الفارسية إلى بغداد. كما غيروا بعض المظاهر الاحتفالية لتتناسب مع المذهب الشيعي الذي كانوا يتبعونه. ومن أبرز هذه التغييرات إحياء ذكرى عاشوراء وإقامة المآتم الحسينية بشكل علني.
على الصعيد العسكري، شكل البويهيون جيشًا خاصًا بهم من الديلم والفرس. مما أدى إلى مزيد من إضعاف النفوذ التركي الذي كان مسيطرًا في العصر السابق. وشهد هذا العصر تطورًا في النظام الإداري، حيث أدخل البويهيون نظام الوزارة الفارسية المتطور.
وفي المجال الثقافي والعلمي، شهد العصر البويهي نهضة فكرية ملحوظة. حيث أسس البويهيون العديد من المكتبات والمدارس، وبرز في عهدهم علماء كبار مثل ابن سينا في الطب والبيروني في العلوم. يذكر القفطي في تاريخ الحكماء أن “بغداد عادت مركزًا للإشعاع العلمي رغم الضعف السياسي للخلافة.
العصر العباسي الرابع: عصر نفوذ السلاجقة (447-590هـ)
شهد العصر العباسي الرابع تحولًا تاريخيًا مهمًا مع ظهور السلاجقة الأتراك الذين أعادوا بعض الهيبة لمؤسسة الخلافة العباسية. يذكر ابن الأثير في الكامل أن دخول طغرل بك السلجوقي إلى بغداد سنة 447هـ، مثل “نهاية النفوذ البويهي وبداية فصل جديد في تاريخ الخلافة”. حيث قدم السلاجقة أنفسهم كمحاربين سنة يدافعون عن الخلافة العباسية.
تميزت علاقة السلاجقة بالخلافة العباسية بطابع فريد. حيث احتفظ السلاجقة بالسلطة السياسية والعسكرية الفعلية بينما منحوا الخلفاء العباسيين مكانة دينية وسياسية رمزية أعلى من عهد البويهيين. يصف الذهبي في سير أعلام النبلاء هذه العلاقة بأنها “تحالف مصلحي” جمع بين قوة السلاجقة العسكرية وشرعية الخلافة الدينية. وقد تجلى هذا بوضوح في عهد الخليفة القائم بأمر الله (422-467هـ) الذي منح طغرل بك لقب “سلطان” بشكل رسمي.
وبلغ النفوذ السلجوقي ذروته في عهد الوزير العظيم نظام الملك (456-485هـ)، الذي أسس نظامًا إداريًا متكاملاً ومدارس علمية عرفت بالمدارس النظامية. وفقًا لما ذكره ابن خلدون في المقدمة، فإن نظام الملك “أحكم قبضته على الدولة من خلال شبكة من الإداريين الأكفاء”. كما أسس نظامًا تعليميًا منتظمًا انتشر في جميع أنحاء الدولة السلجوقية.
أما عسكريًا، فقد حقق السلاجقة انتصارات كبيرة ضد البيزنطيين والفتن الداخلية. يذكر ابن كثير في البداية والنهاية أن معركة ملاذكرد سنة 463هـ/1071م التي قادها ألب أرسلان ضد الإمبراطور البيزنطي رومانوس الرابع “فتحت أبواب آسيا الصغرى أمام الإسلام”. كما قاوم السلاجقة الحركات الباطنية، خاصة الحشاشين الذين اغتالوا نظام الملك نفسه سنة 485هـ/1092م.
وشهد هذا العصر تطورًا في النظام القضائي والتعليمي. حيث أسس السلاجقة نظامًا قضائيًا متكاملًا برعاية القاضي أبي علي الحسن بن علي الطوسي. ويذكر السبكي في طبقات الشافعية الكبرى أن “العلماء أصبحوا جزءً من الجهاز الإداري للدولة”. حيث تولوا مناصب القضاء والإفتاء والتعليم.
سقوط الخلافة العباسية
مرت الدولة العباسية بمراحل من السقوط كالتالي:
سقوط بغداد على يد المغول (656هـ/1258م)
شكل سقوط بغداد بيد المغول بقيادة هولاكو خان سنة 656هـ/1258م نهاية مأساوية للخلافة العباسية في عاصمتها التاريخية. ويصف ابن كثير في البداية والنهاية هذه الكارثة بأنها “أعظم مصيبة حلّت بالعالم الإسلامي منذ بعثة النبي”. حيث دمر المغول المدينة تدميرًا شاملاً، وأحرقوا مكتبتها العظيمة التي كانت تضم مئات الآلاف من الكتب. وقتلوا الخليفة المستعصم بالله وأفراد أسرته، مما مثل صدمة كبرى للعالم الإسلامي.
الخلافة العباسية في القاهرة (659-923هـ/1261-1517م)
بعد ثلاث سنوات من الدمار، أعاد السلطان المملوكي الظاهر بيبرس إحياء الخلافة العباسية في القاهرة سنة 659هـ/1261م. يذكر المقريزي في المواعظ والاعتبار أن هذا الإحياء كان “لإضفاء الشرعية على الحكم المملوكي ولتوحيد الصف الإسلامي ضد المغول”. وأصبح الخلفاء العباسيون في القاهرة شخصيات رمزية دون سلطة فعلية. حيث اقتصر دورهم على منح الشرعية الدينية للسلاطين المماليك وإصدار الفرمانات الرسمية.
وتحولت الخلافة في هذا العهد إلى مؤسسة دينية بحتة، كما يذكر ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة. كان الخلفاء يعيشون في عزلة نسبية في قلعة الجبل، ويظهرون فقط في المناسبات الرسمية. ومع ذلك، حافظوا على مكانتهم الدينية الرفيعة في أنظار العالم الإسلامي. حيث كان السلاطين المماليك يحرصون على الحصول على تفويض رسمي منهم.
سقوط الخلافة نهائيًا على يد العثمانيين (923هـ/1517م)
بعد معركة مرج دابق سنة 922هـ/1516م وفتح العثمانيين لمصر سنة 923هـ/1517م، نقل السلطان سليم الأول آخر الخلفاء العباسيين المتوكل على الله الثالث إلى إسطنبول. يذكر ابن إياس في بدائع الزهور أن “الخليفة تنازل عن الخلافة للسلطان العثماني”، وإن اختلف المؤرخون في تفاصيل هذه الواقعة. بهذا الحدث، انتقل مركز الثقل السياسي للعالم الإسلامي إلى العثمانيين، الذين حملوا لواء الخلافة حتى سقوطها سنة 1924م.
اقرأ أيضًا: الوليد بن عبد الملك
المصادر:
ابن كثير: البداية والنهاية.
المقريزي: المواعظ والاعتبار.
ابن الأثير: الكامل في التاريخ.
الطبري: تاريخ الرسل والملوك.
ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة.
ابن إياس: بدائع الزهور.
السيوطي: تاريخ الخلفاء.
ابن خلدون: المقدمة.
الذهبي: سير أعلام النبلاء.
ابن الجوزي: المنتظم.
المسعودي: مروج الذهب.
القفطي: تاريخ الحكماء.
ابن طباطبا: الفخري.
التعليقات
لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!
اترك تعليق