يعد عبد الرحمن الناصر لدين الله من أعظم حكام الأندلس، حيث استطاع خلال خمسين عامًا من الحكم تحويل إمارة ضعيفة إلى خلافة قوية تنافس بغداد والقاهرة. تولى الحكم شابًا في الثانية والعشرين من عمره، وواجه تحديات جسيمة تمثلت في الثورات الداخلية والتهديدات الخارجية، لكن بحنكته السياسية والعسكرية استطاع إخضاع المتمردين وإعلان الخلافة الأموية في قرطبة عام 929م. لم يكتفِ بتوحيد الأندلس، بل حولها إلى مركز إشعاع حضاري شهد ازدهارًا في العمارة والعلوم والاقتصاد، مما جعل عصره العصر الذهبي للأندلس.

 

نسبه ونشأته

ينتمي عبد الرحمن الناصر لدين الله إلى الأسرة الأموية العريقة، فهو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل. ولد في قصر قرطبة عام 277هـ الموافق 7 يناير 891م.

نشأ عبد الرحمن في كنف جده الأمير عبد الله بن محمد، حيث تلقى تربية أميرية راقية. وتميز منذ صغره بذكاء حاد وذاكرة قوية، وقد حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة. وتتلمذ على يد كبار علماء قرطبة في مختلف العلوم الشرعية واللغوية، كما أتقن فنون القتال والإدارة العسكرية.

واشتهر بـ عبد الرحمن الثالث، تميزًا له عن جده عبد الرحمن الأوسط، وجده عبد الرحمن الداخل مؤسس الدولة الأموية في الأندلس.

 

صفاته وشخصيته

وصف المؤرخون عبد الرحمن الناصر بأنه كان وسيم الطلعة، أبيض البشرة، كث اللحية، ذا هيبة ووقار. وكان معتدل القامة، يتحلى ببشاشة الوجه عند اللقاء، لكنه كان يفرض الهيبة والاحترام في مجلس الحكم. عُرف عنه الذكاء الحاد والذاكرة القوية، حيث كان يحفظ القرآن الكريم والأشعار والأنساب.

تمتع عبد الرحمن الناصر بحكمة سياسية نادرة ورؤية استراتيجية مكّنته من تحويل الأندلس من إمارة مفككة إلى خلافة قوية. وكان ورعًا تقيًا، محافظًا على الصلوات في أوقاتها.

 

البيعة وتولي الحكم

تسلم عبد الرحمن الناصر الحكم بعد وفاة جده الأمير عبد الله بن محمد في 8 ربيع الأول 300هـ. كانت الأندلس عند توليه الحكم تعاني من تفكك كبير، حيث سيطر المتمردون على معظم الأقاليم، وكانت السلطة المركزية في قرطبة ضعيفة للغاية.

وأُخِذَت البيعة لعبد الرحمن الناصر في مسجد قرطبة الكبير بحضور كبار القادة والعلماء والأعيان. وقد أظهر منذ اللحظة الأولى عزيمة قوية وإصرارًا على استعادة هيبة الدولة الأموية، رغم أنه كان في الثانية والعشرين من عمره.

 

توحيد الأندلس وإخماد الثورات

كرس عبد الرحمن الناصر السنوات العشر الأولى من حكمه لإعادة السيطرة على الأندلس. بدأ بحملة عسكرية ضد عمر بن حفصون الذي كان يسيطر على جنوب الأندلس منذ أربعين عامًا. واستمرت المعارك ضده ثماني سنوات حتى سقطت حصونه الواحد تلو الآخر، وانتهى الأمر بسقوط قلعة ببشتر عام 316هـ/928م.

ثم توجه إلى إشبيلية التي كان يحكمها بنو حجاج، فاستعادها بعد حصار دام عدة أشهر. كما أخضع ثورة بني ذي النون في طليطلة، واستطاع إخضاع سرقسطة وبلنسية ومرسية. وبحلول عام 316هـ، كان عبد الرحمن الثالث قد وحد أراضي الأندلس تحت سلطته.

 

إعلان عبد الرحمن الناصر لدين الله الخلافة الأموية

في 3 ذي الحجة 316هـ الموافق 16 يناير 929م، أعلن عبد الرحمن الناصر نفسه خليفة للمسلمين، متخذًا لقب “الناصر لدين الله”. جاء هذا الإعلان بعد أن استتب له الأمر في الأندلس، وكمحاولة لمواجهة الخلافة الفاطمية في المغرب والخلافة العباسية في المشرق.

أمر عبد الرحمن الناصر بضرب السكة باسمه، وخطب له على المنابر في جميع أنحاء الأندلس. كما أمر بإضافة لقب “أمير المؤمنين” إلى ألقابه الرسمية، مما أكد استقلاله التام عن الخلافتين العباسية والفاطمية.

 

الحروب مع الممالك المسيحية

خاض عبد الرحمن الناصر لدين الله عشرات المعارك ضد الممالك المسيحية في الشمال. وبلغ مجموع حملاته العسكرية ضد الممالك الشمالية 52 حملة، بنى خلالها سلسلة من القلاع والحصون على الحدود الشمالية لحماية الأندلس من غارات المسيحيين. ومن أبرز هذه المعارك:

معركة سان إستيبان دي غورماز عام 303هـ/917م، حيث انتصر المسلمون انتصارًا ساحقًا.

ومعركة سمورة أو الخندق في عام 327 هـ / 939 م. وجاءت هذه المعركة في سياق الصراع المستمر بين الدولة الأموية في الأندلس والممالك المسيحية الشمالية، خاصة مملكة ليون بقيادة راميرو الثاني، الذي تحالف مع مملكة نافارا لتشكيل تهديد كبير للمسلمين.

كان عبد الرحمن الناصر قد حقق سلسلة انتصارات عسكرية ضد الممالك المسيحية. لكن راميرو الثاني استغل انشغال الجيش الأموي ببعض الثورات الداخلية، فشن هجومًا مفاجئًا على مناطق المسلمين. وتقدم حتى وصل إلى منطقة الخندق بالقرب من سمورة، مما أجبر عبد الرحمن الناصر على التحرك لمواجهته.

واجه الناصر تكتيكًا عسكريًا غير متوقع، فقد حفر المسيحيون خنادق ومصائد حول مواقعهم، مما تسبب في إرباك فرسان المسلمين. وعندما اشتبك الجيشان، انقلبت المعركة لصالح راميرو الثاني، حيث تكبد الجيش الأموي خسائر فادحة، وانسحب عبد الرحمن الناصر إلى قرطبة بعد أن فشل في تحقيق نصر حاسم.

كانت هزيمة معركة الخندق صدمة للدولة الأموية، إذ أنها كسرت سلسلة انتصارات عبد الرحمن الناصر، وأظهرت قوة التحالف المسيحي. ومع ذلك، لم تكن الهزيمة حاسمة، إذ سرعان ما أعاد عبد الرحمن تنظيم جيشه وشن حملات انتقامية ضد الممالك الشمالية، مما أعاد التوازن العسكري.

وبعد المعركة أمر عبد الرحمن الناصر ببناء سلسلة من القلاع والحصون على الحدود الشمالية (الثغور) لمنع تكرار الاختراقات المسيحية. وعزز التحالفات مع بعض الزعماء المسيحيين لتفتيت وحدة أعدائه. وطور الجيش الأموي بزيادة الاعتماد على الفرسان النظاميين والوحدات البربرية.

 

التنظيم الإداري والعسكري

قام عبد الرحمن الناصر بإصلاحات إدارية وعسكرية شاملة. ففي الجانب العسكري، أسس جيشًا نظاميًا قويًا اعتمد على العناصر التالية:

جيش من البربر المغاربة.

فرق من الصقالبة (العبيد السلاف).

متطوعين من مختلف أنحاء الأندلس.

فرق الحرس الخاص.

وفي الجانب الإداري، قسم الدولة إلى ستة أقاليم رئيسية، على رأس كل منها والٍ يعينه الخليفة مباشرة. كما أنشأ نظامًا قضائيًا مستقلًا. وطور دواوين الدولة مثل ديوان الخراج وديوان الجند وديوان الرسائل.

 

النهضة العمرانية والمعمارية

شهد عهد عبد الرحمن الناصر نهضة معمارية غير مسبوقة. وأشهر إنجازاته في هذا المجال:

مدينة الزهراء (936-940م) التي بناها على بعد 8 كم شمال غرب قرطبة. استغرق بناؤها 25 عاماً، وبلغت تكلفتها ثلث ميزانية الدولة. وكانت المدينة تحوي:

قصر الخلافة الفخم.

المسجد الجامع.

دار السكة.

الحدائق.

القناطر المائية.

كما وسع مسجد قرطبة الكبير، وأضاف إليه محرابًا فاخرًا وقبة رائعة. وأنشأ العديد من القناطر والجسور والطرق في أنحاء الأندلس.

 

الازدهار الاقتصادي

حققت الأندلس في عهد عبد الرحمن الناصر لدين الله ازدهارًا اقتصاديًا كبيرًا:

في مجال الزراعة، طور أنظمة الري وأدخل محاصيل جديدة مثل الأرز وقصب السكر. كما ازدهرت الصناعات المختلفة مثل، صناعة النسيج والحرير وصناعة الزجاج والخزف، وصناعة الأسلحة والدروع، وصناعة الورق.

ومن جهة أخرى، نمت التجارة الداخلية والخارجية، حيث كانت قرطبة مركزًا تجاريًا عالميًا تصل بضائعها إلى أوروبا وإفريقيا وآسيا.

 

وفاة عبد الرحمن الناصر لدين الله

توفي عبد الرحمن الناصر لدين الله في 2 رمضان 350هـ الموافق 15 أكتوبر 961م، بعد حكم دام خمسين عاماً. خلفه ابنه الحكم المستنصر بالله الذي واصل مسيرة أبيه في الحكم.

وترك عبد الرحمن الثالث دولة مترامية الأطراف تمتد من شمال إفريقيا إلى وسط شبه الجزيرة الأيبيرية. وكانت قرطبة في عهده منارة للحضارة والعلم، تنافس بغداد والقاهرة في عظمتها.

 

 

اقرأ أيضًا: قصة الصحابي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه

 

المصادر:

ابن عذاري المراكشي: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب.

ابن حزم الأندلسي: جمهرة أنساب العرب.

المقري التلمساني: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب.

ابن الأثير: الكامل في التاريخ.

ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون.

الحميدي: جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس.

ابن بسام الشنتريني: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة.

 

الوسوم :

التعليقات

لا توجد تعليقات حتى الآن. كن أول من يعلق!

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات مشابهة

عرض جميع المقالات